الخميس، 14 ديسمبر 2023

فإذا جئت فهذه سفرة العمر العجيبة!

 خيل إليّٓ يومها أني سمعت مغنيا ينشد:

"قل لمن يسبح فوق البحر هل يعرف عمقه؟"

كانت تنظر إلّي في كل مرة اتحدث عن مزارع الزيتون، وتقول: لم اتصور أنك تحبه لهذه الدرجة!
قلت: لعل شيئا ما فيَّ يربطي بالبلاد التي تزرعه، ومنها بلادي!

كانت الساعة تشير نحو الثامنة والنصف صباحا، وحتى الطريق لم يكن بذلك الطريق المريح المُعبد، من بين هامات الجبال وبين سفوح الوديان، كأننا بنحث عن جذور الزرع المحيط بنا.
كانت الاغنيات هي رفيقنا الوحيد!

"سوف نمضي نحن في أعماقه، نحو القرار!"

في حوالي العاشرة، تبين لنا سور منتد، يسارنا، به تأثير عوادي الزمن، وزخات المطر المتكرره، والرياح التي تضربه.
لكن عندما اقتربنا من بوابه قبيل نهايته، وجدنا تلك البوابة العتيقة التي بدأت كأنها من عصور قديمة صامدة رغم مرور السنين، وما زالت الاغنيات ترافقنا:

"ايها الضيف اللطيف، سترى كل غريب"

كان الجو ملبا بالغيوم، والشمس تستتر خلف احداهن، اوقفنا السيارة أمام الفيلا، ونزلنا نبحث عن اهل المكان:
- !Anybody home? Hello ..
وفجأة جاء من العدم، شابا ثلاثيا يلبس ملابس المزارعين، يقول: صباح الخير!

فرددنا التحية، وبدأ يدور معنا يرينا ارجاء المكان.
المكان الذي هو عبارة عن مزرعة زيتون كبيرة فيها جهة لزراعة محاصيل ورقية، وزاوية فيها خراف بسيطة، وفيلا طرفها الايمن، في القبو توجد كنيسة عائلية صغيرة، بجانب غرفة للخدم.
اما غرفة الطعام، فهي تطل على جزء من المزرعة الذي امامة حوض سباحة امام جرف يريك بقية الحقول التي حولهم.
ولهذا طلب منا ان نحرك السيارة لمكان صف السيارات الخاص بهم.

لم يكن مهم اطراف الحديث الذي قلناه، ولا صدره ولا عجزه، لكن المهم انه كان حديثا حميميا وكأني اعرف الرجل مسبقا، حتى عندما جاء ابن عمه وهو المسؤول المالي عن المزرعة، فلما سألته عن مجاله العملي اصلا قبل ان ينخرط في اعمال العائلة، قال: محاسبة! وهو المجال الذي درسته حتى انخرط في اعمال العائلة، بالمناسبة هذا الجو لا يماسبني البتة، اذ انه يصطحب معه رياح قوية تؤذي الانتاج، ويبدأ عقلي بحساب الخسائر تلقائيا.

فضحكنا، واكملنا جولتنا، ونحن نسير بين اشجار الزيتون، يتخللها تعليقات جانبية وصور تذكارية، وكانت بعض هذه الشجيرات تعري نفسها من بعض الغصون الزائفة، التي تحمل زيتونا لا يحسن حصده لعدم نضجه، حتى بدأنا نشم رائحة تبغ مميزة!

جاء والد مضيفنا، وهو يدخن سيجارا توسكانيا مميزا بقِصَره، معتمرا قبعة قش صفراء مثني اطرافها من الخلف، وفي وسطها عَقَدَ شريطا اسودا، ويردتي قميصا ابيض عليه صدرية رمادية اللون، والبنطال يحمل ذات اللون، لكنه كان يرتدي بوتا بنيا غامقا تظنه الاسود، يرتفع حتى وسط ساقه.
جاء ليسلم علينا، وكنا ضائعين في وسط الترجمة، ثم اشار بيده اليسرى التي فيها سواء اسود لساعة قديمة تسمع صوتها كما لو كانت ساعة جدارية، بثلاثة اصابع، لدعوى، فقبلت دعوى شرب فنجان القهوة، عند حوض السباحة، وأخذ يسأل عن فرق انواع الزيتون وزيوته في المنطقة.

وبين العربية والايطالية والانجليزية، تحدثنا عن كروم العنب التي حولهم، فتمتم بكلمات، ضحك منها ابنه، ثم قال لي: يقول ان تلك الكروم هي التي عرفته بأهل أمي، في ليلة مقمرة حزينة، مغلقين نوافذهم من قوة الريح، حتى هم لديهم مشاكلهم مع مثل هذه الاجواء ....
قلت: اين القصة؟ اكمل!
قال: آه! نعم! هم الوحيدين الذي كانوا يزرعون الرُمان، وقد قطفها منهم!
قلت: هذه قصة أم كذبة؟
قال: هذه حكاية!
فضحكنا جميعا، وذهب ابوه بعد ان حيانا بقبعته واتجه صوب الفيلا، ونحن ذهبنا مع ابني العم للغرفة التي فيها طاولة الطعام، اعد لنا افطارا بسيطا وان كان متأخرا، واكملنا الحديث عن السفر والرعي والزراعة، وعن مشاكل التموين والتمويل، حتى مللت الارقام لا المكان.

عندما هممنا بالمغادرة، قدم لي هدية علبة شوكولاه مخلوطة بزيت الزيتون، بمقابل قنينة صغيرة من زيتون الجوف!

ومضينا وكلانا يفكر بسؤال وحيد:
كيف نحفظ هذه الذكرى ليوم غد؟
حتى نعلقها للذكرى؟

فقررنا نتصور صورة كبيرة، ونعلقها للذكرى!

وعلقت معها كلماتي هذه في رؤى حالمة!

الأحد، 26 نوفمبر 2023

نابليون - 2023: خسرنا كل شيء الا الشرف!


يبدأ هذا الفيلم المربك بتمهيد عن الثورة المنتهي بمطالبة الجماهير برأس ماري انطوانيت خلال فترة روبسبير.

يظهر هنا في الخفاء ذلك الملازم الايطالي -أو لأقل- الكورسكي: نابليوني بونابارتي، من بين الجماهير متواريا في الظلال خلفهم، لكنه بعيدين حذقتين ترقب كل شيء حولها.

نابليون هنا شاب ذو طموح شخصي خاص، يريد انتهاز الفرصة التي تضع اسمه على المشهد بشكل صارخ، بعيدا عن رجل مثل روبسبير لا هم له الا تقطيع الرؤوس واطعامها للجماهير الجوعى!

ثم تبدأ الرحلة!

الرحلة التي جائت كتقليب صفحات لباحث مغرض متلهف للحصول على النتيجة التي يريدها!
وتحت حجة أنه فيلم هزلي، على غرار فيلم The Death of Stalin - 2017 الا انه لم يقارب التجربة حتى.

الفيلم اتخذ هذا القالب واستند على ثلاثة افكار:
الاولى حدية الشخصية
الثانية الطموح غير المنتهي
الثالثة العلاقة مع جوزافين (وهي اكثر هذه الافكار صُراخا)

نابليوني الكورسكي الذي كان يكره الفرنسيين لعدة اشياء منها التافه ومنها المنطقي، من نطق حرف R الى تندرهم على اصله الريفي رغم شهره عائلته في كورسيكا، الا انه كان يحب فرنسا، والجيش الذي كان ملازما له!

شخصية مثل هذه تحمل متناقضين، لابد ان ينعكس ذلك على ايهابها، فكي تكون شجاعا لابد أن تلفك الرهبة والخوف احيانا، ولكي تقدم، لابد ان تخاف ان تتسمر رجليك مكانها، وكي تبكي يجب ان تحاول ان تمنع نفسك من البكاء، وترجمة الانفعالات قد تخفي بداخلها شخصية قد تبدو طفولية، وان كانت داخل جسد اخر رجل امبراطوري يحكم ويقاتل بنفسه ويسن الشرائع.

ولهذا كان طموحه الكبير لا يقف الا عند نهاية حدود هذا العالم كُله!

لكن كيف ترجم لنا الفيلم كل هذا الذي نعرفه او قد لا نعرفه او محاولة القراءة للشخص والحقبة؟

كالتالي:
اجاد في شيء واساء في اشياء!

مما اجاد فيه، مثلا، خلجات الرجل الطموح والمحارب الذي يحارب مع جنوده الذي يحبونه لانه يخضب الأرض بدمه معهم، وكيف أنهم كانوا يطيعونه لأنه الملهم: نابليون بونابارت!

ولكن من اساءاته، مثلا، تمحور كل شيء حول جوزافين وكأننا أمام مسرحية هنري الخامس لشيكسبير، وكأن سبب حرب هنري على فرنسا هو إمرأة وكلمة!

لكن اكثر الاساءات تفجراً، هي تقليبه لصفحات التاريخ كتقليب بائع روبابكيا يبحث في عِلّية منزله بين صناديق الورق عله يجد شيء قديم اثير يبحث عنه، لينتهي بالاخير بأن يرمي كل هذه الصناديق بشكل غاضب ويخرج من منزله وان لم ينتهي من عمله!

لأخرج من صالة السينما كما خرج نابليون من أرض ووترلو، وهو يحمل عنان حصانه ويقول: خسرنا كل شيء الا الشرف!
فخرجت زبيدي مفاتيح سيارتي وانا اقول: خسرت كل شيء الا مشاهد المعارك!

واسير بين ممرات الصالة وانا اشاهد نابليون يكتب ثلاث كلمات اخيرة: فرنسا .. الجيش .. جوزافين ..
وانا اتمتم: خواكين .. ريدلي سكوت .. سينما

تمت

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

وثم عاد الشاعر الى مدينته


كانت هذه المدينة، فلورنسا، تنادي زائرها مثلما كان ينادي دانتي حبيبه بياتريس، أكان لابد يا بياتريس أن تضيئي النور؟

قد دخلناها من الجنوب، خلفنا روما نيرون، من دون لحنه الأثير، إنما كنا نسمع لحنا توسكانيا يطوف حولنا، وكانت الظهيرة، بدأ كل شيء هادئ، شمس ساطعة، حولها غيوم جمّلَت مُحياها.

قبيل نهاية العصر، نزلنا قرب قصر فيكيو، فإذا بالجو تلبد بالغيوم، وهلت الامطار قليلا، فتوارينا بدعوة من صاحب مقهى في ساحة ديلا سنوريا حتى يخف المطر، جلسنا، وطلبنا القهوة، لكني اصريت ان يعدها على طريقة اهالي نابولي بالرغم من كوننا شمالي البلاد، ذهب من عندنا وهو يضحك ويقول: قادمين من الجنوب!

المهم ونحن ننتظر ونتحدث، اذ بالمطر يخف قليلا، فتبيت رجلا يلبس لبسا يعود لفترة ليست موغلة بالقدم، لكنها قطعا ليست حديثة، كأنه لباس القساوسة لكن ليس منهم، مرتدنيا قلنسوه حمراء مُخاطة ببرنوس احمر قانٍ كأنه زهرة حمراء وسط حقلٍ اخضر، اقتربت منه، وفي طريقي لوسط الساحة اذ يلتفت نحو رجل روماني مظهره ضبابي كأنه الطيف، بدأت بتحريك عيوني لعلها زغللت من تأثير المطر، لكن عيناني لم تخطئ، رجل يرتدي لباس روماني تقليدي قديم، ذو لون سياني مميز، قد حَلَّقَ رأسه بورق الغار، فلما اقترب من صاحب القلنسوة، مد له مخطوط، وقال له: حتى هذه المخطوط لم يسلم منك ايضا!
فرد عليه بقوله: الا يغفر لي ان كتبته قبلا؟
قفال الاول: الغفران يأتي بعد عدم تكرار الذنب، لكنك اعدت تكرار الخطيئة!
عندما لمست كتف صاحب القلنسوة، تسامى هو الاخر لحالة الطيف كرفيقه، لكن المخطوط سقط منه على الارض!
تلقفته، فإذا هو بخط عربي لا تخطئه العين، كان في مطلع المخطوط:
"وأعلم  - أعزك الله - أن الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة"

فقلت في نفسي: سرقة جديدة تحت بند التأثر! وضحكت!

عندما اردت العودة، وجتها قد جائتني وهي تبتسم وتقول: متى جئت بهذا المخطوط، ازيارة الى المكتبة مرة اخرى؟
قلت: بل لبيت شاعر!
قالت: وشاعر يزور شاعرا! وغمزت لي!
قلت: لعله كما تقولين! وضحكنا!

في الطريق توقفنا عند محل يبيع حرف يدوية، دخلنا لاني وجدت لوح شطرنج مصنوع يدويا واحجاره تمثل عائلة المديتشي، فتمسكت به تمسك الطفل بلعبه، وما ان رفعت الرقعة على طاولة المحاسب، حتى دخل رجل امرد، يرتدي ايضا قلنسوه حمراء، لكن البرنوس ابيض، ولم تكن مُخاطه به، مد يده للمخطوط الذي تأبطهُ وقال: اعتقد ان هذا يخصنا!
قلت: وعدت انت ايضا!
قال: يحاول بلدنا ان يغفر، لكن بعض الذنوب لا يغفرها البشر! استميحك عذرا!
وخرج! وهو يتلاشى كلما ابتعد عن ناظري!

التفت لها وقلت: هل رأيتيه؟
قالت: ليت لي مثل احلام يقظتك، لكن احك لي، فأنا احب حكاياك!
قلت: نحكيها في بيت الشاعر!
قالت: نحكيها في بيت الشاعر!

وقد كان!
بيت دانتي اليغيري في فلورنسا وهو يتناول حياته فيها حتى نفيه ومعيشته بين روما وفيرونا حتى مثواه الاخير في رافينا.
اما الروماني فهو فيرجيل صاحب الإنيادة، اما الامرد فهو جيوفاني بوكاتشو الذي يعتبر المتيم باعمال دانتي وكأنه المعرّي في مُعجز أحمد.

ثم تحدثنا كثيرا حتى اتينا للغرفة التي فيها ابرز اللغات التي ترجمة اعماله، لاجد رجل اعمى ذو لحيه ناعمة طويلة قليلا واعتم بعمه عربية وكأنه مسافر عبر الزمن، فقلت: يا شيخ اترى؟
فقال: لا، لكني اسمع، وسمعتك تقول بوكاتشو، هذا النذل سيخفي حقيقة علاقة طوق الحمامة بكتاب حياة جديدة، كما اخفى علاقة كوميديا دانتي برسالتي!

سألته: أأنت أحمد بن عبدالله التنوخي، المعروف ب...
عندها دخل ذلك الامرد، وهو يشير باصبعه نحو وجهي مباشرة، وكان اصبعه امام انفي تماما وقال لي: أخرج! أنت وشيخك الضال!
قلت: على رسلك! سنخرج!

عندما نزلنا، جلسنا قرب مطعم صغير، وسألت "شيخي الضال" إن كان يريد أن يأكل، فقال أنه يريد سلطة!
أما أنا فأريد لحما!
فقام من عندي وادار ظهره وقد تسامى هو الاخر لحاله الطيف الشبحي التي اظن أن كل سكان هذه البلدة يجيدونها!

فقالت لي: لعلك تريد ان تزور بيته الاخر في فيرونا!
قلت: تزورينه معي!

وقد كان!

تمت!

الخميس، 2 نوفمبر 2023

مارتشيلو، تعال! بسرعة!

 ما ان حطت قدماي المطار، حتى شعرت أنني في مطار القاهرة!

لا اعلم يقينا ما هو جو الألفة الذي حام جو اللحظة، وجعل ذلك الموضف المكتهل، ان يجعلنا نمر سريعا مع عائلة اخرى، نحو صديقته موظفة الجوازات كي تعطينل ختم الدخول، لنجد اسضا حقائبنا بانتظارنا.

ومما زاد في اجواء القاهرة، سائق التاكسي الذي اقلنا الى الفندق، فعندما سألنا من اي البلاد نحن؟ فقلنا العربية السعودية، ادار المذياع لمحطه ايطالية تذيع اغنيات عربية جلها مصرية.
واثناء الحديث عندما سألته عن المدة الزمنية التي يستغرقها القطار من روما الى مدينة نابولي قال: ولم القطار؟ انا اقلكم! فقلت له بالعربية - لا اراديا - متشكر!

عند باب الفندق، مدت له ورقة بقيمة خمسين يورو، فقال لي مازحا: بقشيش؟
فقلت له: buono!

لكني وجدت نفسي مدفوعا، لوسط المدينة، حيث ان صور النوافير اعلى من اي ضوضاء في هذه المدينة.

وبمناسبة ذكر الضوضاء، هذا الصخب ايضا اضاف لها من صورة الشعور بحالة القاهرة، حيث برغم اشارة المرور الا انك اجد شرطي بصافرة هو من يتحكم بالطريق، والمشاه اصلا لا يلقون بالاً للوحات الارشادية.

لكن بالرغم من هذا، حرصت على تتبع الصوت، حتى جن الليل، فتساقطت رشات المطر الطفيف علينا، وهذه اجواء غير معتادة هنا في روما، ولهذا كنا تكسر كثير من القواعد لنزيد من حدة الاشياء غير المعتادة في المدينة، كشرب الاسبريسو ليلا، تجرعا لوقود موتور يبحث عن شيء فقده من سنين عديدة.

وكان عازفا يجلس على قارعة الطريق، يعزف لحنا كأنه لنينو روتا على آلة الماندولين، فرفعنا رأسينا، اذ أن المنظر الذي كان أمامنا كأنه صندوق الدنيا، ذلك الصندوق الذي يحمله الكحواتي على ظهره كي يحكي القصص من خلال الدمى التي بداخله.
توقفنا، وبدأنا نميز صوتا ينادي مع علو صوت النافورة: الحياة حلوة - لا دولتشي فيتا / La Dolce Vita
وما زلت احاول تبيان اللحن الذي تأكدت أنه لنينا روتا!

هناك عند قريبا من نافورة تريفي، وجدت قبعة على كرسي قبالة النافورة وعلى الارض، ربطة عند بدلة توكييدو ملقاه غير مربوطه، ما ان اقتربت منها، حتى عاد الصوت لينادي:
" مارتشيلو، تعال! بسرعة! "
وعندما التفت الى النافورة تلاشت كما يتلاشى دخان البخور من المكان، وعاد الصخب اليها - اي النافورة!
مع فرقة تغني اغنيات كلاسيكية معروفة، قلت لرفيقتي:
- نأخذ اللقطة قبل أم بعد الجلاتيو؟
- بعد، دعنا نستمتع باللحظة!
وقد كان، وكنا نسمع الفرقة وصوت الناس يغطي حتى الازقة التي تؤدي للمكان.

وعند الصباح كان شهريار الذي لن يسكت عن الكلام المباح، فما زال في جعبة صندوق الدنيا الكثير.

تمت

الأربعاء، 20 سبتمبر 2023

ثلاث زيجات وجنازة!

 جلسن اربعتهن في طاولة مستديرة في طرف الغرفة

كلتاهن متحجبات بيضاوات شعورهن سود ويرتدين نظارات

الا واحدة، لكن ازعم انها ترتدي عدسات!

بدت احداهن أنها ترتدي خاتما ذهبيا في خنصر يديها اليسرى، وكلما امالت راسها للكتابة بدا مفرق شعر رأسها فسحب حجابها ذي اللون الاخضر المعتق كي تغطية

صحيح بالمناسبة: كلهن عبايتهن خضر!


المهم انهن جلسن في هذه الحصة الدراسية، التي اتت في يوم ثلاثاء بارد بليد كالعادة الا من هذا الحدث!


ثم اتت المحاضرة الجنوب افريقية المستعربة، والتي تحاول ان تخفي هذا الاصل بلهجة انجليزية مفتعلة، فيها صلع طفيف تخفيه بجزء من غرتها الايمن، كانت محاظرة مملة رتيبة رتابه يوم الثلاثاء، وكان داء التثاؤب يصيب الجميع بالتناوب، ينتقل من طاولة الى اخرى، بما فيها الانجليزية، فلعلها رأفت بحالنا فقررت ان تعتق رقابنا في هذا الدرس الثقيل حتى الظهيرة، بالاحرى لما بعد الغداء، وخرجت!


فيما بدأ بالخروج خلفها مجموعة من الحظور، كنت احدهم، في الطريق، كانت احداهن تقول:

هل أنت زميل؟

لأي إدارة؟

إنما عنيت المبنى؟

نعم زميل في مبنى الادارة!

لا تبدو مألوفا.

هل من متطلبات الزمالة هذا؟


ثم اقترقنا، كلا في شأنه، لكني ما فتئت ان عدت الى قاعة المحاظرة، اعاني من صداع مزاجي، يحتاج الى كوب شاي بشكل سريع ومُلح!

دخلت، اذ يعم الهدوء الا من همهمات الرباعي الخضر، ذهبت الى الطاولة بجانب النافذة المطلة على الممر الطويل بين مباني الادارة الزجاجية الممتدة، رفعت كأس الورق، ووضعت فيه كيس شاي انجليزي وملعقتي سكر صغيرة برغم من كل تعبيرات جورج اوريل، اغرتني شرائح السلمون ان اصنع منها افطارا متأخرا، لكن كل هذا غير مهم.

رجعت لطاولتي المبعثرة:

كراسات منثورة فوقها أقلام روكو زرقاء الحبر، ودفاتر نوتات عليها خربشات لا تفهم الا من قبل كاتبها.

جلست، وانتبهت بسبب فهمي للهمهمة، ان طاولتي قريبة!

بدأت تتضح لي معالم حديثهن!

لا يهم تفصيل الحوار الذي سمعت، لكنه انعكاس لهن!

واحدة منهن خرجت من تجربة زواج فاشلة، وكانت تتحدث لصاحبة الخاتم عن ما عكر صفو العلاقة، لان صاحبة الخاتم كانت تحكي انها بعد هذا الارتباط الجديد في حياتها - اي تجربة الزواج - الا انها ليست كما تخيلتها وان كانت مثل موج البحر جميل ومنعش وان كان متقلبا.

الا ان التي زعمت انها ترتدي عدسات، فكانت تعيش نكرات لذاتها، اذ انها ترفض الاعتراف بحالتها العمرية فهي بهذه الطريقة تحاول ان تتشبب.

اما الاخيرة فكانت قد خسرت زوجها في حادث سير مؤسف، ولهذا ليس لها اي اهتمام الا من تربية ابنيها المراهقين، احدهما في الثانوية والاخر في الجامعة، وتشكي ارهاق هذا رغم لذته: اذ ترى في محياهما روح والديهما الراحل!


ما لفت انتباهي ايضا وانا اشرب الشاي، انهن ايضا تَحَلقنًَ حول كاسات الشاي كأنهن فرسان الطاولة المستديرة، ولون العباءات يعكس قلوبهن الخُضر، مما جعلني استحضر عبارة عائشة السيفي عندما قالت:

يقايضن خيباتهن بفنجان شاي"

وسطرٍ مُحلى من الكلمات"


فتبسمت، حينما جلست في جانبي "الزميلة" وهي تقول:

أتريد منها؟ القهوة؟ مَهيلة! ومدت إلّي الفنجان!

قلت: من اعدادك؟

قالت: لا، استعرتها من صديقتي، لم تقل لي: في اي دور هو مكتبك؟

الثالث!

اذا معنا في ادارة المراقبة، انا اسمي هيلة، وانت؟

طلال!


ونحن في انتظار عودة المحاظرة، اتى زميل اخر وجلس معنا، وهو يلهث ويقول: اسف! لعلي تأخرت، لكن من الملقلق أن تحظر اجتماع عمل عن بعد وانت في دورة تدريبية، اسف لم اعرفكم بنفسي: سامي!


شربت القهوة، لعلي اخفي ابتسامتي!

هل من شيء؟

لا! انما تذكرت اغنية جميلة ليس إلا



تمت





الاثنين، 7 أغسطس 2023

قالت حين كذا ... الوداع!

 قالت حين كذا ... الوداع!



في خضم جلسة عمل مفاجأة، لم يقدر لها ان تستمر لحوالي الساعة، انتهت بالاتفاق على مشاريع الاعمال القادمة، ومع صوت الآذان، الكل هم بلملمة حاجياته للانصراف، فقالت هي الوداع!


كان وقع الكلمة غريب، وقد غلب على ظني انها اعادتها ايضا!


هل للمظهر الجديد الذي كان في هذا الاجتماع علاقة؟

أم هي مشاكسة؟


كانت كعين الشمس عند المغيب، بعبق من جنوبي البلاد، يضفي على هذه اللوحة رونقها، منذ ذاك الزمن، واللوحة هذه ترتسم وكأنها لحن للأخوين رحباني، يخفي خلفه سر مثل سر شادي.


وإن اشتدت حرارة الأيام، أو هظلت الثلوج، او غسلت الاراضي بالمطر، يظل الوداع مؤرق!


- إلى لقاء؟

- ‏إلى اللقاء!



وداعا الى اللقاء .. في موعدٍ جديد!


الأحد، 6 أغسطس 2023

في معنى الحقيقة!

 

في واحد مرة قال لي:

" حنا كل ما بدينا نمون على بعض، واحد ممنا يسافر "


اذكر انه قالها في حديث عابر، بيني وبينه، كان فيه بوح عن مجموعة من الاصدقاء بيننا قواسم مشتركة كثيرة، وكان ان قد كادت لن تطفو على السطح مشاحنات ومناكفات لا يفر منها اي رفاق يشاكسون بعضهم بعضا.


الا اني توقفت عند كلمته قليلا!

لم استطع ان اتجاوزها، ظلت ترن في اذني كانها جرس!

كأنها صوت لحن لعازف ساكسفون عتيق، بجانبه عازف بيانو عتيد يكمل رونق اللحن، وخلفهما عازف لآلة التشيلو!


الا انه مع سفر احدهم، في يوم الاحد الثالث عشر من اغسطس / آب ٢٠٢٣ الموافق السادس والعشرين من محرم ١٤٤٥ الهجرة قفزت العبارة من ذاكرتني لتحضر في ذهني، واعيد عزف هذا اللحن من جديد.


في هذه الحياة هنالك لقاء ووداع، واثقل الاشياء على النفس هذا الوداع المقيت، على عكس اللقيا، ففيها بدايات الاشياء وغرسها الأول.


اذكر في اول بقعة جمعتنا احد ظرفاء المجموعة ارتحل الى كندا لمدة ستة اشهر، كانت اشبه بامتحان لنا، الى اي مدى سنشعر بفراغ المكان الذي خلفه، لكن بعد عام ارتحل احدهم الى بلاد الشمس، مدة ليست بالقصيرة، وعاد في سنة الكورونا.


في بقعة موازية كان هنالك خمسة اشخاص جمعنا القدر بظروف مختلفة، وعندما بدأنا بتكوين هذه البقعة الموازية، سافر احدنا الى شرقي البلاد للعمل، وهناك انخرط في بقعة محلية كانت من ستة عشر نفرا انتهت بعد رحيله بنفر واحد!

لكن المهم بقعتنا الموازية نحن، بعد سفر هذا الى شرقي البلاد، ذهب بول اوستر بقعتنا - الذي قال لي ما قال اعلاه - الى بلاد الانجليز بعد رحيل الاول بسنتين!

اذكر فيما اذكر من ايام العمر الماضي بيننا، اننا ذهبنا الى منطقة في مدينتنا تُرمّز بحرفين لاتينيين هما: DQ لنشاهد فيلما قادما من جمهورية سيئول، جميعنا، ما عدا الذي رحل لشرقي البلاد، الذي ظل يغبطنا على تلك الرحلة بعدما عاد لوسط البلاد!


لكن الساخر ليس هنا، ان احدهم، ويُكنى بأبي القاسم، ذهب هو الاخر لشرقي البلاد ايضا، قبيل عودة الاول منها بشكل نهائي، بسبب وظيفته التي ارسل اليها اوراقه بالقطار وكأنه في مهمة عسكرية منذ زمن الحرب العالمية!

هذه الالتقاطات عنده تذكرني بذات الالتقاطات التي تلتقطها عدسته، وخلال هذا الرحيل الثلاثي، تركوني مع احد الرفاق الذي يهرشه مخه بين الفينة والاخرى: السيد منتقد!

لتصبح كل الحوارات بيننا وكأنها نقاشات بين ضرائر

شعاره الدائم التنظير أولا! ولأن الحياة عبارة عن مسرح كبير، ولا يستقيم معها الا التأمل في مآلاتها التي قد نخلص فيها: ان الانسان عندما يقع في مستنقع افكاره قد تؤدي به الى المهزلة، والله المستعان.

لكن الغريب أن ابا القاسم الان سيذهب في التاريخ الذي ذكرته اعلاه الى الغرب الأمريكي، حيث العم سام ومرفقاته، مما جعل عبارة بول اوستر الهُمام تقفز إلى ذهني من جديد!


هل سنفتقد الحديث بالالمانية؟

اتصور لا، فالشبح الاصفر على الهواتف المهمولة، سيكون كفيلا بتقريب ما تباعد من المسافات والزمن، كما كان مع ساكن بلاد الانجليز، ومع عودة الاول الذي ذهب لشرقي البلاد، لعله يجعل النقاشات السوداوية فيها بصيص نور كنور عيني القناص التي تلمع في هدوء الليل!



هذه رسالة "حتى لقاء قريب" تجبنا لقول كلمة الوداع، اذ حتى ساكن بلاد الانجليز، فنان في الهروب من لحظات الوداع!



- طب ذولي اربعة في البقعة الموازية وانت الخامس وتقول ستة، السادس ما حبت طاريه؟

- ‏السادس اعرس وجته بنت وصرنا ما نشوفه!



تمت


السبت، 22 يوليو 2023

أوبنهايمر: فيلم سيرة ذاتية على غرار أماديوس

 افلام السيرة الذاتية عادة ما تتناول بقوالب محددة مع لمسات تفرق بين مبدع وآخر، ولكن لعل اشهرها:


ان يكون في لدى البطل عقدة ونقطة تحول في رحلته (لورنس العرب -1962 & the life and death of peter sellers - 2004 نموذجا)


أن يكون في لدى البطل حالة انسانية او ابداعية يستحق الوقوف عندها(Ed Wood - 1994 & Chaplin - 1992 نموذجا)


رحلة البطل بين عالمين مختلفين، بين الصعود للهبوط وما شابه (الثور الهائج - 1980 & اخر ملوك اسكتلندا - 2006 نموذجا)


واخيرا الصراع بين انداد او اشخاص مشتركين في المجال او في رحلة البطل (اماديوس 1984 نموذجا)


وهذا الاخير هو النموذج الذي صاغه لنا كريستفر نولان!



انا هنا لا يهمني الحديث عن الفيلم بتفاصيه، ولا عن ابداع الخطوط الزمنية التي اجاد نولان توضيفها، انما عن صراع الانداد!


اتذكر حديث في وثائقي لميلوش فورمان عن فيلم اماديوس، انه لم يرضى باخراج الفيلم الا عندما قرا نص بيتير شيفر، فوجده عباره عن صراع بين اثنين من اهم اعلام الموسيقى، احدهما خلد في التاريخ والاخر اُهمل، فما كان من ميلوش الا ان اشترط ان يكون الممثل الذي سيجسد شخصية الموسيقار الثاني ببراعة الذي سيجد شخصية الاول!

فاخرج لنا فيلما للتاريخ!



تدخل انت للفيلم وانت عارف سلفا، ان روبرت اوبنهايمر عراب القنبلة، لتلج لاول مشهد في الفيلم عندما يسال لويي ستراوس لِمَ لم تدخل البريت اينشتاين معك في المشروع؟

ليكون الجواب: لن اختار شخصا رفض اهم نظرية فيزيائية!


انت الان شاهد على احد هذه الاشكال التي بُنِيَ عليها الفيلم، لتنتقل بعدها الى عدة لحظات تشاهد فيها اصرار اوبنهايمر على احضار نيلس بور للمشروع، ليتفاجأ روبرت ان بور يحمل ذات القلق الذي يحمله غريمه اينشتاين تجاه المشروع، رغم اختلافهما العميق في مجالهما.


لكن بسبب اهمية المشروع ذي الطبيعة السياسية، كانت هنالك اللحظة الفارقة التي سخر فيها روبرت اوبنهايمر من لويس ستراوتس في احد الجلسات، بوعي منه او بدون وعي، لا فرق، المهم النتيجة: تفجر بينهما الصراع!


الا يذكرك هذا المشهد بشيء؟

مشهد دخول موتزارت على امبراطور النمسا لعيد عزف نوتة انتونيو سالييري ويسخر منها، بوعي منه او بدون، لا فرق، المهم النتيجة: تفجر بينهما الصراع!


فصار جُل هاجس ستراوس ان يمحي اوبنهايمر، مثلما صار جُل هاجس سالييري ان يمحي موتزارت!


ولم يكن مآل المصير بينهما كمآل المصير بين اينشتاين وبور!


الفرق بين الاثنين شيء واحد: سير الرجال! انما قالب السرد واحد!

هناك موسيقيين اقتربا من اهم رجل في حياتهما وهو امبراطور النمسا، وهنا فيزيائي وسياسي اقتربا من اهم رجل في حياتهما وهو الرئيس الأمريكي!



اوبنهايمر هو موتزارت نولان، الذي عزف هذه السمفونية المرعبة التي احرقت كل شيء حتى الرجل نفسه، مثلما احرقت نوتات موتزارت روحه وحياته.


وكان سالييري نولان، هو ستراوتس الذي عاش لغاية واحدة رغم موهبته: اقصاء غريمه، وهي غاية لم ينلها، تماما مثل ساليري وعاشا مهملين!


كما في حالة اماديوس، الذي حضي بمخرج وبطلين مميزين حملا على عاتقهما الفيلم برمته، كان فيلم نولان هذا.

واحب ان اشير الى اداء روبرت داوني جونير، الذي استطاع ان يعيد لي ذكرياتي مع اداءاته العظيمه، ولكن روبرت الان لا يستطيع ان يعود، واتصور انه بهذا الدور اكد الى اي مدى روح Iron Man توغلت في اداءه فدمرتها، وكأن Iron Man بالنسبة لروبرت داوني جونير هو ساليري مسيرته!


اما كيليان ميرفي: فهذا فيلمه!



وقبل الختام، احب ان اشير الى عظمة استخدام الموسيقى التصويرية في الفيلم، التي كانت تحضرك لادق التفاصيل في مراحل الفيلم، وتجعلك تستشعر كل لحظة بادق تفاصيلها كما لو كنت من ضمن ااطاقم التمثيلي.



ختاما:

انا لا يعنيني ان يكون هذا فيلما للتاريخ من عدمه، ولا يعنيني ايضا، ان يكون هذا افضل افلام نولان او اقلها، ولا يعنيني ان كان قدم جديدا من عدمه!


انما يعنيني التزام مبدع تجاه سينماه وتجاه الفن السابع، وهذا هو الشيء الذي يسحتق الاحترام!



الخميس، 20 يوليو 2023

ما بين Asteroid City وعوالم Wes Anderson الأخرى

الاهداء:

الى الثلاثة خرجت معهم في ليلة السنة الجديدة، كان المقرر أن نشاهد هذا الفيلم سوية، لكنه انتهى للمشاهدة وحيدا، لكن احدهم رمى بهدية من حيث لا يشعر ساعدتني في أن ابلور فكرة المراجعة.

فشكرا لهم قدر ما ضحكنا في تلك الليلة

كان الثلاثاء ٣٠ ذي الحجة ١٤٤٤ ليلة الاول من المحرم ١٤٤٥ 


.............


كيف تكتب فيلما عن المسرح؟

بأن تكتب فيلما تسجيليا بطابع إذاعي عن المسرح!


يفتتح الفيلم بمشهد لمذيع يتحدث فيه عن مخرج يريد اخراج مسرحية عن مدينة تدعى "الكويكب" في الولايات المتحدة، ويقوم المخرج بمحاولة تقديم هذه الافكار عنوة، كوادر ثابته، ممتدة، كأنها لعبة ليجو، فيها عائلة خسرت أماً، وطلابا يزورون هذه المدينة المحمية من قبل الجيش، وفرقة ريفية، وفندقا غريبا يبيع كل شيء عبر مكائن البيع حتى العقارات كما لو كانت حلوى أو مشروبات.


تمر المشاهد، ليعاود الظهور مرة أخرى هذا المذيع ليروي كيف سُجل هذا الفيلم، يستمر معك، حتى يأتي المشهد الذي يكون فيه الممثل الذي يؤدي دور الأب، ليقوم بتحربه اداء امام المخرج، ليقيمه، ليحل بعدها صمت.


وكأن هنالك عدم يقين خفي من الممثل تجاه المخرج في الاستمرار بالتجربة، وطبعا الحل الوحيد للمخرج أمام هذه الفوضى اليقينية هو الاستمرار في التجربة!

لم؟

اوليس المسرح هو المكان الوحيد الذي يتحول فيه الكرسي الى قلعة، والضوء الاحمر الى دم، والشعاع الأزرق الى شلال ماء؟

فهذا الاحتراق للممثلين وتكثيف اللحظة، قد ينتج معاني متفرقة، والأهم: التجربة في حد ذاتها!

أن نكون فوق الخشبة مجتمعين!


يستمر سرد الاحداث بغض النظر عن أي شيء اخر، حتى يتم التنبه لامرين:


الأول: أن الشاشة التي ترسل الاشارات في المختبر، ما هو الا ترميز لتاريخ معين، لكن لا ندري ما هيته!


ليستمر هذا الشاب الذكي الذي اكتشف هذا الشيء في الجلوس مع اؤلائك الطلاب في الجلوس، ويكون والده الذي فقد زوجته مستمر قي التقاط الصور!


لنأتي عند الأمر الثاني: وهو نزول كائن فضائي من مركبة فضائية ويأخذ الكويكب معه، وقبيل رحيله يترك للمصور فرصة في التقاط صورة له، استعد هو الاخر بوضعية مميزة حتى يحبسه فيها، ثم سعد بالكويكب ورحل!


هنا كانت الفكرة الخام التي لم تتوج! اذ انها -الفكرة ممثلة بالفضائي - لم تجد الرابط الذي يربطها بجوهر العمل: الكويكب!


وبالتالي هذا دفع المذيع الذي يروي احداث كيف صنع هذا العمل، بان يظهر فجأة وسط الممثيل! وكأنه خرج عن احداث فيلمه التسجيلي!

وكأن الفكرة هنا لم تختمر، اذ أنه يعود بك لكواليس التي جمعت المخرج بالممثلين ليروي كيفية توزيع الادوار، غير أن كاتبا هناك (اندريان برودي) لم يكن يعاني من ذات القلق اليقيني الذي وجد عند الممثلين.


لكن الكائن الفضائي يعود، ويعيد الكويكب، بأن يرميه من علٍ، هكذا!

ليعاد فرض حضر التجول في المدينة من جديد، ثم يعاد ذات المشهد الذي يجمع المخرج بممثليه، حتى يمر احدهم - وهو والد الابن الذي اكتشف تاريخ قدوم الفضائي - غاضبا ويمر خلف الكوادر، للكالوس الخلفي وفي مسيره يمر علة الممثلين، وكان الوحيد الذي تكلم هو ممثل قيل له: انه سيؤدي دور رجل الفضاء! ولا يعلم المغزى!

حتى وصل الى كاتب العمل: فسأله سؤالاً مباشراً:

ما معنى كل هذا؟ ما الغاية من كل هذا؟

فما كان الرد الا ان قال له: هل يجب أن يكون له معنى؟ هو الاستمرار في الجناية: جناية التجربة! تثريك وتصقلك، يجب ان تؤدي وان تقف على الخشبة وخلف الكاميرا، كما الكاتب ان يكتب، فقط يكتب، حتى يجد ضالته!

وخرج من عنده للشرفة الخارجية ليستنشق الهواء، ويحرق لفائف التبغ، ليتصادف مع الممثلة التي كان من المفترض أن تكون صوت زوجته، وكأنه مشهد للتعبير عن دخول الممثل في لحظة التقمص!


عاد الممثل من تلك اللحظة، لحظة التقمص ليتمرغ في نصه ليعودون في صورة صارخة واضحة كأنها مسرحية لدي لارتي.


ليعود في الاخير تجمع كل الممثلين والفنين في ترديد كلمة واحدة مع مبدعي العمل: لا يمكنكم الاستيقاظ إن لم تغطوا في النوم!

ليمر الكائن الفضائي بينهم حتى نهاية الممر وهم يرددوا هذه الفكرة، ويخف الضوء حتى لا تبقى الا عينيه الكبيرتين.

ثم يقف المذيع التوثيقي في زاوية الكادر وهو ينظر: هل وعيت اللحظة؟


ليعود الفيلم بعدها في مشهد مدينة الليجو للاب المصور وهو لا يجد ايا من رفقاءه الا من صاحب النزل العجيب، ليركب سيارته ويخرج هو الاخر من كادر المدينة عبر الطريق الطويلة الممتدة!

في اشارة واضحة لفكرة محددة: الاستمرار في التجربة!


فعلى العكس من The French Dispatch، اذ ان ذلك الفيلم كان يتحدث عن سر الحكاية، وهي تُخلد في كاتب يرويها، وأن البحث في سرها هو الذي يجعلها كلما رويت ازدادت خلودا.


وكما كان The Darjeeling Limited هو حديث عن رحلة الهروب، محاولة الهروب من واقع يظن صاحبه أنه مأزوم منه.


وكما أن The Grand Budapest Hotel يتحدث عن المجاز في الصورة.


فان مدينة الكويكب يتحدث عن تفاصيل العمل المسرحي، ولكن كما لو كنت تجري اللقاء مع الخشبة نفسها! وذلك يتضح بمثال: الاهتمام بالفضائي فهو من ناحية فكرة العمل الضائعة، ومن ناحية اخرى هو الكمبارس المهمل الذي قد يُنجح العمل او يُبليه، عن المخرج الذي يبحث عن صورة مُثلى للعرض، عن كاتب لا يرى جدوى حقيقة فيما يقدمه، وعن ممثلين يحاولون الدخول في الحالة ولو لم يقتنعوا بالعمل، عن الديكور الذي يعكس روح الحكاية، وغيرها وغيرها من التفاصيل المنثورة هنا وهناك!


اذا ما الذي شاهدناه؟

شاهدنا فيلما تسجيليا عن مسرحية ما!

وعن ماذا تتحدث؟

لعله كما قال احد الاصدقاء: " ... بما ان الفيلم عبثي فالفليم ليس له معنى واضح "


أوليس هنالك مسرحا تجريبيا؟




حررت في العشرون من يوليو/تموز ٢٠٢٣م الموافق الثاني من المحرم لعام ١٤٤٥ للهجرة

الخميس، 13 يوليو 2023

زجل

 هل تكون القصائد بلا لون ولا طعم بلا صوت؟


خرج مرتديا عقاله، بعد أن وقف أمام المرآة يزينه فوق رأسه، ثم ثنى احدى طرفيه شماغه فوقه وخرج.

ركب سيارته متجها إلى عمله، يوم خميس هادئ وسعيد، لكن عكره شده الحر، والقهوة التي شربها لتبقيه يقضا.

ما ان اوقف سيارته في المكان المخصص له، خرج من مبنى المواقف الى مبنى العمل، ووقع الحضور في تمام التاسعة، التي بدت حراتها كأنها الظهر، الا أن حرارة اللحظة التي تودلت كانت مختلفة!

اشم عطرا يألفه، كان يفوح خلفها كأنه بخور العروس، وكأنما هذه الرائحة حملت مفتاحا لقلبه، اغمض عينيه للحظة ثم فتحها بعد أن أحذ شهيقا مطولا، ايرى رموشها الكحلى ذات العيون العسلية، خصرا ممشوقا، بوجه طفولي وشعر قصير، ليس لأنه قد قص، ولكنه هبة الباري.

تبسم، ورفع يده اليسرى لعقاله، وأماله قليلا وهو يحاول أن يخفي ابتسامته، ابتسامه العاشق الخفي، وهل هنالك عاشق عاقل؟
وكأن للحظة فارت عروق أمه اللبنانية لتعيد عزف زجلاً في رأسه، وكأن كل الذي كان يطلبه في يومه هذا، لحظة يخلدها.


"قلبي رف حواليكي بموسم أعياد

إن شاء الله بالحب عليكي بالعيد ينعاد

طيري مطرح ما تطيري خلفك راح ضل

واعرف من اي ديرة ومن اي بلاد

إن شاء الله بالحب عليكي بالعيد ينعاد"


الأحد، 9 يوليو 2023

حتى تنطفئ السيجارة - قصة قصيرة -

 سحب كرسيه وجلس خلف الطاولة،

فتح الدرج، واخرج الاوراق بمقاس A4 الخاص بالطباعة،

وجلب قلم uni-ball الازرق ونزع الغطاء،

وقرب منه منفظة السجائر،

اشعل سيجارة، ثم ركنها فب المنفظة،

واخذ الفلم، وأنشأ ليقول:

" سأحكي لكم قصة، ليست صحيحة ولا حتى شخوصها موجودين، لكني ضجر قليلا، وكان صديقه يشاكسه، فقرر أن يكتب عنهما، ليصنعها على عينيه في هذه الوريقات وكأنهما من لحم ودم حقيقيين.....


أبو فهد، كان شابا تحاوز الثلاثين، يهرب هروبا مجازيا من فكرة الزواج، خصوصا اذا طرحتها أمه، الحقيقة، هو فقط يشعر أنه مختلف ولن يجد تلك الانسانه التي تفهمه، كأنه وشق في برية لم يجد من يحتويه، ....



- هالحين ابو فهد ذا وش اسمه؟

- ‏يا اخوي لا تشغلنا، ما تبي تسمع القصة؟

- ‏الا!

- ‏خلاص! جب!

- ‏طيب!



.....، ابو فهد، كان يعامل مقر العمل انه مكان يرسل اليه راتبا مقدورا نهاية كل شهر، لا يهم اي شيء اخر، المهم ان يستمر حرا طليقا في هذه الحياة، حتى كان ذلك اليوم، الذي تذكر الوشق أنه سنورا في نهاية المطاف، اليوم الذي قرر فيه كل زملاء العمل بما فيهم أبو فهد، ان يتغدوا من مطعم البيك، حيث الكثير والكثير من الثوم والفلفل الحار، وكان الدور عليه، بسبب لعبة بلوت قديمة خارج سياق العمل في حفل تكريم للشركة كانوا حاضرين فيه، المهم أن الطلب قد وصل، بعد أن بلغ منهم الجوع مبلغا عظيما، ....



- لحظة! لحظة! وراك عجل؟

- ‏ياخي خل نخلص، انت غاصبني على النص، خلننا ننجر!

- ‏ما غصبتك!

- ‏معنويا!

- ‏المهم!

- ‏اسلم!



....، خرج وهو يستمع لاغنية فيروز: "تع ولا تجي"، وكأنها ترسل له رسائل خفيه، وقد كان،  عاد بوجه باسم، غير الوجع الجائع الذي خرج فيه، وبدأ يشغل نفسه بقصص جانبية لا معنى لها، وكان أول شخص أنهى وجبة غدائه وذهب ليجلس وحده يقلب هاتفه المحمول، منهمك في كتابة شيء ما، حتى قاطعه احد بسؤاله عن عدم مشاركته لهم بالحديث، فقال:

"ليتكم ما طلبتم البيك، وليتي ما نزلت، وليتي ما شفتها، فعلا تع ولا تجي واكذب غليا..."

وظل مسترسلا وهو يروي تلك اللحظة الحالمة، اللحظة السر! حتى جاء مضحي، اقرب زملاء المهنة له:" وش بلاك سمالله عليك!! وبضحكات ساخرة"

 رد عليه بقوله:

 ‏"خلني يا مضحي، تكفى، لولا الحياء، كان خميته،

صغير وجميل وتذبح عيونه

والنهد توه مبين عزي لحالي"

قال مضحي: اخطبهالك!

ابو فهد: جاد انت!

مضحي: عيب والا حرام؟

ابو فهد: لا، بس ...

مضحي: انت راغب؟

ابو فهد: والله راغب يا خلي! قلبي كنه رشا وهو يقفز فرحاً، هكذا وشاف الريم، فنسي المكان، ونسجت شعوري وسط الحكاية!



- شعورك انت والا شعور ابو فهد؟ ويغمر!

- ‏تدري! انا الغلطان الي اطاوعك واكتب لك قصة بناء على طلبك!

- لكن تقل فيه مشاعر موازية!

- ‏لكن الاديب الي في داخلي الان استغنى عن هالسالفة كلها، لأنك صدت ظباء مكة! 

- ‏يعني منت مكمل؟

- ‏لا، خل نروح مطعم حَمَام عبده بس!

- نكمل هناك؟

- ‏لا، لأن احيانا جزء من سحر القصة فيما لا يروى...




هنا، انتهت سيجارته، واطفئها في المنفظة، فاغلق القلم وتركه فوق الورقة، وذهب لينام.




تمت


الاثنين، 3 يوليو 2023

عندما قرر المشاهدة - كلاكيت مرة ثانية -

 أتذكر أول مرة في حديث مباشر عن الفيلم، كنا نحضر حفل زواج أحد الأصدقاء السينمائيين، واستطرت بالحديث المطول عن الفيلم تغنيا، وتسفيلا بفيلم آخر، وهو Marriage Story!


لعلها كانت لفته اولى غير مستغربة، بنسبة لهم لهيامي بالفيلم، لكن لعله اول حضور صارخ له - اي الفيلم - في الاحاديث التي بيننا.


ثم تكرر الحديث مجددا عنه - اي الفيلم - عندما جلسنا في مقهى روسي داخل العاصمة لنتحدث عن فيلم Drive My Car للمخرج Ryusuke Hamaguch، كنت اختتمت حديثي بقولي: لكني ما بعد شفت After Hours!


قال لي: مب After Hours، After Hours حق خويك! سكورسيزي! قصدك Happy Hour!


قلت: ايه انا لخبطت! لكن على طاريه: شفت الايرلندي؟

قال: ناويه!



ثم انطلقنا في ايامنا ليمر الثور الهائج بينها، وكحالة من خيبات الأمل لها علاقة بالقراءة، هو يشترك مع مخرجنا العجوز بعينيه الثاقبة التي تحبس اللحظات بكل تفاصيلها، ليحقق اعظم صورة تعبيرية!


ولعل الفارق بيننا هذه الالتقاطات، لعلي أميل لحفظ لحظاتي رسما بالكلمات منها بحبسها في صورة!


ولهذا كنت مررت له نصيحة بمشاهدة فيلم Big Night 1996 عن صراع اخوين ايطاليين يديران مطعما، احدهما يريد ان يواكب رغبات رواد المطعم في تقديم اطباق مختلفة وتواكب جديد الأيام، على ان الاخر يصر ان يقدم اطباقا ايطالية اصيلة تعيد الحنين للوطن الام!

هو هام في هذا في الفيلم، حتى ظننت لوله انه حبس نفسه فيه!

قلت له ذات مرة: ان هذا الفيلم من لم يشاهده محروم ومن شاهده مأسور!

ولعل هذه العبارة تلخص علاقتي مع بعض الأعمال.

ولعله التقط هذه العبارة في عقله الباطن، اذ انه هو ايضا بعدها نصحني بفيلم ايطالي فرنسي اسمه Caro Diario موسيقاه علقت في ذهني كأنها تعزف خلفي وأنا اسير، حتى كدت احبس فيه انا الاخر!


في ظل كل هذا الحبس، ظللت حبيس رغبتي في ان يشاهد الفيلم: الايرلندي!


وفي ليلة لم يكن البدر فيها مكتملا، ارسل صورة لشاشة غرفته كتب على الصورة الظاهره منها: The Irishman 2019!


وخلال تمريره لهذه الصورة، كأنه علم يقينا اني سأسله عن الفيلم، فمرر توصية لفيلم ايطالي كنوع من الرشوه الضمنية للضمير السينمائي! اسم الفيلم: cristo si e fernato eboli  1979


وقد قبلتها بطبيعة الحال، فهعرت سريعا أبحث عن روابط مشاهدة للفيلم، وعندما تيقت ان الفيلم استقر في جهازي المحمول، عدت للمجموعتنا الوتسابية لأسأل:

- كملته؟

- لا انتصفت فيه! يشبه goodfellas!

- جدا! عندك مشهد شاحنة النقل الخفيفة ذا كنك في goodfellas! انا متأكد بنسولف كثير عنه لا خلصت!


بعد فترة من انتهائه، وبالرغم من انشغاله بالتحضير لدراسته، الا أنه قرر أن يخصص وقتا ما، للفيلم على الأقل، وهذا ما يهمني: أن نوسع دائرة المشاهدة! فالأعمال الفنية العظيمة مثل الأماكن المميزة التي نريد زيارتها والأمنيات التي نود تحقيقها، والروايات والكتب التي نود قرائتها واقتنائها.


 فكيف اذا اجتمعت أن يكون عملا ما حظي بمشاهدة من صديق، سيكون مثل مشاركة الذكريات بسفرة او قصة او طلعة نتذكرها طويلا


وحتى ذلك الحين، ستكون الجوقة تردد خلفنا:

So before the light

Hold me again

With all of your might

In the still of the night




تمت

الثلاثاء، 27 يونيو 2023

عندما حذفت الرسالة - كلاكيت مرة ثانية -



لم تكن مجرد رسالة عابرة...

كانت اشبه صراخ في فلاة...

ولهذا أحيانا منا نذوب في تلك اللحظة التي تتطلب مننا هكذا صرخات...

وعند السكون

واستعادة الانفاس

نفكر

هل سمعنا احد؟



- نحتاج للمواساة!

- ‏دونما كشف؟ ربما!

- ‏لكن الصراخ يغدو مطلب أحيانا، ولكن نحتاج معه ملحن يعزف على الكمان ينتقي لنا الالحان

- ‏لست اجيد التلحين إذا!

- ‏المعادلة احيانا مثلما قال احدهم: شاعر يخرج الكلمة من المعجم لينفث فيها من روحه، ليتلقفها مترجم يعيدها للمعجم!

- ‏لم افهم!

- ‏طببعي! لا الرسالة محذوفة!


تمت

الاثنين، 26 يونيو 2023

عندما تصل متأخراً ...


هو مثل الفرح، والبدر، تجلي للحظة تأتي متأخرة!

كشجرة الذكريات تعلق على غصنها صفحة جديدة!

تحتاج يرعات تضيئها!

هو يجيء مثل الحلم، يلون الليالي التي أنام فيها مبكراً، إذ أن السهر يلونه سنا القمر!

وأظل في الليل أبتهل، شعراً أو دعاءً، لا يهم!

قد يختنق صوتي، وقد تبدو من عيني لمعة، كأنها قدحة القداح، مثل صفقة منادي، ينادي طيره الحر، طائر الهوى الذي ظل يحن لمجيئه طيلة هذا الحول!

فتصير هذه اللمعة كنجمة بحر على شاطىء الجفن لعلها تصيب غرة فتنهمر كندى الصبح.

فما من ليلة تمر الا واراقب قمرها، هيا أطل!

ارسل سناك ولو جاء متأخراً!

فهي ليست مسألة اشتياق او انتظار، انما لحظة فارقة في الزمن، كما ذكرت آنفاً، هو شعور عابر أريد له أن يبقى ولو ظل مجيئه متأخراً.

وإلا فما فائدة شجرة الذكريات؟

لولا أن نرويها بها لتظل مزهرة!


السبت، 24 يونيو 2023

The Banshees of Inisherin - أغنية للشهداء

 


نستهل الكلام، بقول احد الشعراء:


"يا شعبي يا عود الند

يا اغلى من روحي عندي

إنا باقون على العهد! "


والند هو البخور، اذ انه يحترق ليجعل المكان بهيا وذو رائحة طيبة، لكن في فيلما اليوم كانت رائحة الكراهية هي ما يعج في المكان!


عندما قرر كولم دوهرتي ان لا يتواصل مع رفيق عمره وشقيق روحه وقلبه فضلا عن الحديث معه: باتريك سوليوان الذي يعيش هو واخته شوفان، في جزيرة صغيره على طرف الأرض الأم أيرلندا تدعى: أنشيرين!


هذه الرحلة من المخاصمة بين الصديقين الشقيقين بدأت عندما قرر كولم أن في رأسه لحنا مختلفا يريد عزفه، لحنا جديدا يريده أن يبقى  ويظل خالدا حاملا اسمه! وهو الشيء الذي لم يفهمه باتريك، فكان بكل براءة يقول له: ما الذي اختلف اليوم؟ فقط هكذا فجأة قررت مخاصمتي؟ ونحن في خضم هذه الحرب الأهلية؟ حتى أن اخته التي قررت الذهاب لكولم لتقول له: ارجع فأنه الرجل يحبك انتما لا تستطيعان العيش بمفردكما منعزلين، فما كان من كولم انا رفع وتيرة التهديد بقوله: إن عدت لمحادثتي فسأقطع أحد أصابعي وأرميه لك حتى تفهم!


الذي لم يدر في خلد باتريك أن هذا اللحن الذي دار في خلد كولم ما هو الا بروستانتيته التي استيقضت فجأة بدافع من البروتستنتي القابع خلفهم في انجلترا، أما بالنسبة لباتريك فهذا أمر غير مفهوم، منذ متى كانت هذه التفاصيل مهمة! نحن ارلنديين مسيحين هذا هو المهم!


فما كان من شوفان الا ان ذهبت لكولم في الحانة وهو تستمع لأخيها السكران وهو يعبر عن حبه لها، أن تقول له: أنت ما زلت تحب الرجل لم تريد أن تهجره! ثم أن موزارت عاش في حقبة غير التي كنت تقول، في اشارة واضحة للسبب التافة الذي تسبب في فصل بين الأيرلنديتين، ولتضمين ان هذا الرابط بينهما سيبدأ بالضمور!


شوفان كانت هي الرابطة الوحيدة بينهم، حريصة أن يظل الشمل قائم حتى كان اول اصبع قطع في اشارة واضحة لتفاقم الشرح داخل الجسد الواحد، هنا سوفان اسرت لكولم انه يجيب ان تعيد اصبعك! وتقبلت العرض الوضيفي وغادرت أنشيرين في اشارة واضحة للاستسلام الواقعي حيال وضع قائم، لكن بالمقابل كانت هذه الرابطة قد قطعت بينهم!


ومع استمرار كولم في عزف اللحن حتى اكتمل، ومع ارادة باتريك أن يبدد أي محاولة لكولم في تشتيت هذا المحاولة لهذا اللحن، حتى قرر كولم في لحظة فارقة أن يقطع بقية اصابعه الأربعة! وسقط أول الموتى بسبب هذه الأصابع: حمار باتريك العزيز على قلبه!


هذه الاصابع ما هي الا كناية عن تمزق الروح في البلد الواحد: وسيل الدم الذي سنهمر من رحم الأرض الأم: أيرلندا!

أما الحمار الذي أصر باتريك أن يضع صليبا شاهدا على مدفنه، ما هو الا كناية كل أولائك المهمشين من الضحايا لذين مزقوا من بين عائلاتهم وقراهم في الفصل الذي حصل!

حتى أن رمي كولم للأصابع على باب باتريك ما هو الا بمثابة المنازعات التي طالت طول الحدود بين الايرلنديتين!


ومع دوي المدافع المستمر، التي كلما أطلقت قذائف كأنما ترن جرسا رجما بالغيب، ليحدث شيء جديد في هذه الجزيرة الصغيرة الهادئة هدوءا قاتلا، وكأنها تنادي البانشي القابع في أنشيرين، فمن كانت؟

 لم تكن سوى العجوز الشمطاء مدخنة الغليون التي تتنبأ بالمستقبل لهذه العلاقة المريرة، حتى كانت لحظة الغضب الأخيرة عندما علم يقينا باتريك أنه لا محال في أن يقنع كولم المخبول بلحنه النشاز في اعادة العلاقة، فذهب ليخبره بما ينويه صراحة فكان قلق كولم الأول من اقدام باتريك ذو القلب البريء الذي فقد تلك البراءة الطفولية اخيرا، فأحرق بيته بعد الدوي الأخير للمدافع، في اشارة اخرى للمواجهات بين حزب اولستر والجيش الايرلندي الجمهوري.

 ‏

 ‏ حينها فقط ،جلست العجوز أخيرا في كرسي قبالة الشاطئ في صباح يوم بارد هادئ رتيب الا من حرارة اللحظة: اللحظة التي افترق فيها باتريك عن كولم وكانت تجلس بينهما رغم عودتهما للحديث مع بعض!


اعطاه ظهره وهو يرحل عنه، وكولم ينظر له، ولينهما البانشي جالسة على كرسيها تدخن غليونها في الصباح الباكر، وكأن الشاعر ذكر باتريك في هذا الرحيل وهو يقول:


"أتراني بعد هذا الوهن أشتاق إليك؟

أم تراني بعدما أدميتني أحنو عليك؟

لا!

لم تعد تسكن قلبي

لا!

ولا دقاته تهفو إليك!


لعنة الأيام والدنيا عليك!"




تمت في ٢٤ حزيران ٢٠٢٣ الموافق ٦ ذي الحجة

المكان: مقطورة الطائرة!

الخميس، 22 يونيو 2023

من هو الدون كيخوته؟ رحلة مع ميجيل دي ثيربانس!

"لقد أوشكت على الرحيل

وكلي ولع واشتياق للموت

إلهي، أكتب إليك"


مطلع أغنية كتبها ميغيل دي ثيربانتس بالرواية البيزنطية: "الإسبانية الإنجليزية"طبعا هو اشتهر برواية الدون كيخوته.


الدون كيشوت دي لامانشا، ابن اقليم قشتالة الذي يحارب الأشباخ وطواحين الهواء والسحرة والمشعوذين.


ميجيل نفسه الذي عاش ما بين ١٥٤٧م حتى ١٦١٦م، من مدريد وإليها، وجد نفسه أمام اسبانيا مضطربة الهوية، فقبل ٥٠ عام من ولادته سقطت مملكة في الجنوب، مملكة غرناطة ليجد قبيل وفاته بسبع سنين، قرارا من الملك فيليب الثالث بترحيل سكان من أيبيريا، كانت تعج بهم البلاد.


وهو الذي عاش في أقليم اندلوسيا جنوب البلاد، وتنقل في فيه، ما بين أشبيلية وطليطلة وقرطبة وحتى لشبونة في البرتغال، حتى استقر في بلد الوليد ليكتب الفصل الأول لكيشوت! في عام ١٥٩٧، ليصدر بعدها قرار الملك فيليب الثالث بطرد السكان من البلاد.

تُرى، هل الموريسكيون هم الأعداء حقا؟

ولهذا كان كيشوت يحلم بالفروسية؟


ميجيل نفسه خلال اضطراب الهوية الإسبانية هذا، ذهب لإيطاليا في عام ١٥٦٩م ليصطدم مع الهوية التي كان تسبب له هذا الاضطراب الداخلي!

أتتهُ هذه الهوية بقومية جديدة غير ما ألف في بلاده.

العثمانيون!

وجد نفسه في مواجهة حقيقية مع ذاته التي تتنازعها الثنائية القشتالية-الأندلسية!

فشارك بنفسه بمعركة ليبانت، التي كانت بين تحالف أوروبي ضد العثمانيين الذي ما فتأت أوروبا أن أعتبرتهم وحوشا كطواحين هواء مخيال ثيربانتس، لينتهي الأمر به سجينا في وهران بالجزائر، وبقي خمس سنوات حتى أفُتُدِيَ وعاد لبلاده!

هل هذه هي الذاكرة المثقلة التي كان يهرب منها كيشوت؟!


بعد أن عاد للبلاد، ولدت بقية الرواية في السجن الملكي في أشبيلية بعد ثبوته اختلاس المال العام عندما كان حاكما لبلدته لامانشا أو ثيوداد ريال.


ومع ذلك يبدو أن لا أحد شهد هذه الحكاية الطويلة التي هرب منها من ملك، وعاد في عهد ملك إلا هو نفسه، فلا يستطيع إلا أن يحكيها هو، لهذا كان سانشو!


سانشو الذي رافق الدون كيشوت دي لامانشا، مع "روسو" حماره الصغير في أشارة لكل تلك الرحلة المضنية لكاتب لم تعرف روحه الأستقرار أبدا.


السؤال:

هذه الشخصية التي خرجت من رحم لامانشا لتصبح نبيلة، وتبحث عن كل أولائك الذي يستحقون الموت لأجل مقدس ما في وجدان كيشوت، ما منبعها؟

كما هو الحال مع الهوية الإسبانية التي تجد نفسها متنازعة لا تدري إلى أي حضن ترتمي فيه!

فهي كذلك هذه الشخصية المضطربة مثل مؤلفها فهي لا تعرف مستقر الا من راويةٍ رافقهم يدعى سيدي حامد!

لعل هذا أو أكثر ما جال في خاطر الدون ميجيل دي لامانشا، أو الدون كيشوت دي ثيربانتس!




كتبت في ١٤ اغسطس ٢٠١٧م

الجمعة، 19 مايو 2023

وقال أبو العباس: "وهذا من تكاذيب الأعراب"


قام أبو العباس وصلى الفجر وحيدا
وراح يبحث عن الرسائل

أبو العباس يقوم يصلي العصر وحيدا
ويعود يعود لرسائله

ثم تأتيه أم البنين، تمد ليديه فاكهة البرتقال، فيأخذها ويضعها على الطاولة، ويسألها: هل رأيتي عُمر؟

تعود أم البنين، ومعها وصيفاتها وخدمها، وقد جمعوا برتقال الحديقة، الى ساحة القصر، فتنثره وهي تبتسم، ويعيدون فرزه لأبي العباس، فهو يحب البرتقال!

- وجدت رسالتك؟
- ليس بعد!
- لكن أين عُمر؟
- ألم ترسله؟
- برسالة؟
- هو الرسول؟
- وأنتي أيضا!
- أيضا؟!
ولم تمضي سويعات الا وقد جاء!
- أبا العباس!
- أجلس أصلحك الله! قل لي كيف رأيت الناس؟
- .....، .....، ثم إن سرقسطة أغنى بلاد الأندلس، وحين يصيب القحط سائر الأندلس، تبقى سماؤها ماطرة، وأرضها ممرعة، وريع خراجها اضعاف المدن الأخرى، .....

....وانتقطعت هذه الحكاية بقولها: علشان كذا سموها بلد الوليد؟
تنهدت طويلا ثم قلت: لا يا بنت الحلال، مالها علاقة! انا كنت احاول اسوي لكم جو انهم ليش سموا بلد الوليد باسم الوليد بن عبدالملك! وعطيتها وضعية أنه ارسل عمر بن عبدالعزيز للأندس يشوف وش الأوضاع هناك، وأنه لقاهم مشرهين طويل العمر بديره باسمه!
- وهم صدق سوو كذا؟
- الظاهر، كذا تيمنا بعهده الميميون!
- وراك ما صار لك خلق؟
- لا بس بدا يقرصنا الجوع؟ نتغدا؟
- يلا!
.....
- بورفابور!
- سي!
- بايلا!
- سي!
وانصرف النادل!
- تدرين أن اسمها بالعربي بقية! يعني بقية الأكل!
- ليش؟
- لانهم كانوا يجمعون الباقي من اكل البيت ويطبخونه على بعضه! مع الوقت صار طبق معتمد، يقال ان الحكم بن هشام اول من أكلها!
- له دخل بالوليد؟
- من احفاد عيال اخوه!
- طيب ما تبي تكمل القصة؟ شكل لك خلق!
- يمكن اكمها بعدين!
- متى؟
- اذا طلع الصباح!
- ليش شهرزاد؟
- لا! شهريار!
- بايخة!

تمت



الاثنين، 15 مايو 2023

أغاني نيسان في فندق عائلي

نيسان هو شهر أبريل، وفي نيسان يحترف الناس حرفة مميزة، يستعدون لها استعدادا نفسيا ومعنويا وذهنيا، حرفة ليس كأي الحرف، يعيدون فيها تشكيل الأشياء!


ذكر أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ في كتابه الأوائل:

"أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، فقال الناس: "لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حُرفة الأدب""!!


فمن كهوف شرق هذه المدينة ومستنقعاتها أتيت، وأنا قد تملكت أهم مهارة، مهارة تحتاج تقنية عالية وذاكرة قوية وتبريرات جاهزة، ولهذا قد يبدو نيسان شهرا أليق بالأنثى، تلك الأنثى الجاهزة لإعادة تأثيث الموقف المراد الإطاحة به! هذه المهارة هي مهارة الكذب! ونيسان شهر الكذب، شهر قائم على الاحتفاء بكل هذه الكذبات، ولا تكتمل حرفة الأدب التي أودت بذلك الخليفة المسكين الا بهذه الكذيبات المرمية هنا وهناك، ولهذا يقول الشعراء مالا يفعلون!

ولهذا قد يكون الكذب هنا فضيلة! فضيلة غير متوقعة! كغيوم تشردها الرياح فتظهر ما يختبئ منها فيها، ويغسله لك المطر!


وهذا هو كان الحال مع هذه المدينة التي أتيتها من شرقها، كانت عروس الشمال، قلب أقليم الباسك، المطلة على الأطلسي، سان سباستيان!


كانت يوم الوصول هادئ، كيوم صيفي شكسبيري، إنما أكثر هدوءا وحلاوة! ملبدة بالغيوم لكن لم تذهب ألونها ولا ضياء شمسها، ولم تكتنفها عُتمة! مدينة جبلية ساحلية، لا سهل ولا استواء، كانها حبة خالٍ على وجنتي حسناء أندلسية بيضاء الوجة حالكة الشعر، كغمام المدينة!


ومضيت كاني عازف ناي يستمر في عزف النوتة، من ذلك الطريق الذي ترك الجبال على يمينه، وبقية المدينة عن يساره، يتشارك في رسم ملامح الطبيعة ضوء اشارات المرور للمشاة أو السيارات!


حتى وصلت لذلك الكوخ، على الأقل هكذا بدا لي، وكانت المطر الخفيف بدأ يرسم ملامح السمفونية الجديدة، نازلا يكمل تفاصيل المدينة، مع النهر الممتد وسط المدينة ليصب في الأطلسي!

المهم أن هذا الكوخ، أن حُقَّ لي تسميته بذلك، كان مسورا بالاشجار، كأنه تاج أغريقي.

أوقفت سيارتي ونزلنا، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف ظهرا، حاملين حقائبنا، وما أن دخلنا حتى خيل إلينا أن كل أهل البلد هنا، جلسنا ننتظر موظفة الاستقبال لنسجل دخولنا، تنظرنا نصف ساعة تقريبا، حتى جاء موظف كان يقف خلف طاولة المقهى الداخلي وقال لي: سيدي، هذا مفتاح العرفة، ادخلوا، نوارا ليست هنا، لا أعلم إلى أين ذهبت، ولكن هذوا قسطا من الراحة، ثم انزلوا واكملوا بقية الإجراءات!

- هل انت زميل لها؟

- ‏أنا أخوها!

- ‏أخاها!

- ‏نيرو، يا سيدي!

- ‏الامبراطور؟

فضحكنا وقال: أن تردت أن تشرب شيئا يريحك من السفر، أخبرني!

فتركته وصعدنا إلى غرفتنا، كانت تطل مباشرة على الجبل الذي قسمه الطريق بيننا وبينه، وتحته ملعب الحي لكرة القدم، وفي نهاية الطريق هنالك حضانة أطفال مقابلها مقهى صغير!



-- بعد الاستحمام --



- تبون ننزل؟

- ‏ما ريحنا!

- ‏الي يسمعكم قاطعين جادة!

- ‏يا ابن الحلال!

- ‏طيب، سوو شاهي لين أخلص من التشييك معهم تحت!

ونزلت للاستقبال، وجدت المدينة مجسدة فيها، كأنها صورة محمولة من متحف الذكريات، صوتها وهي ترحب مخنوق كأنه صوت قطة ابتلعت صوفا، أكمل تلك الصورة وجها طفوليا لا يشيخ، ينسدل خلفها شعرها الأسود حتى نهاية العنق، واذنين لم يفتق فيها مكانا للأقراط، وقد تلاعب بوجنتيها جدري الماء، وما أن شرحت شروط المكان وأوقات الافطار وما شابه، أشارت إلى خرائط خلفها وقالت:

- أتريد واحدة؟

- ‏ماهي؟

- ‏خريطة المدينة!

- ‏أعتقد أن خرائط جوجل تكفيني!

- ‏أنت وما ترى!

هنا جاء اخيها بفنجان قهوة أمريكانو ووضعه على الطاولة وقال: على حسابي!

قلت: أنتم عائلة؟

ردت: بلى، هذا فندق عائلي، جدي أتى من استورياس وسكن المدينة، بعد نهاية عهد دكتاتورية فرانكو، وأسس هذا الفندق في هذا المكان بعد وفاة والدتي!

- هو جدك لأمك إذا!

- ‏أجل، واستمرينا نحن، وللأمانة فأن الموضوع ممتع ومسلي في آن!

- ‏وهذه الأسماء؟ من أين اصلها؟

- ‏لا أدري، أبي كان يقول أنها اسماء لاتينية، وأن أصل الأسره، اسرته هو، حتى الجد التاسع، أيطالي، ولكن لا تدري، مع هذا التاريخ الطويل العريض الممتد في اسبانيا لا تستطيع ان تستبعد أي شيء! على كل حال، هل ترغب بايصال؟

- ‏ارسليه على البريد الالكتروني!

- لك ذلك!


وما إن أنهيت قهوتي حتى خرجنا، حاملين مظلاتنا، ونبحث عن كافيه نبتاع منه قهوة الطريق حتى المحطة التالية!

لكن كل ما وجدناه سياح فرنسيين افسدوا المشهد مع الغربان أيضا!

فكان أهون ألف مرة ان نكمل المسير على أن نتوقف هنا للتزود بوقود الموتورين، ومضينا حتى انتهى ذلك الشارع عند مصب النهر في المحيط!

قطعنا الإشارة لينهي الطريق عن مقهى عائلي أيضا تديره أربعة اخوات متفاوتات بالعمر، عند مدخله نخلة باسقة ترحب بك!

- نأكل أم نرتاح قليلا؟

- ‏كلا الخيارين جيدة!

وما أن جائت احداهن، حتى قالت: آسفه! اختي الطباخة لم تأتي اليوم، ولهذا نحن نقدم المشروبات والحلويات فقط!

قلنا: قهوة إذا!

جلسنا، ثم قلت: لم لا نعود للفندق بعد المغيب، نتناول العشاء هناك؟

- قد سحرتك القطة!

- ‏نحن في اسبانيا وليس في المغرب!

- ‏حتى ذلك الحين، سنرى!

ما إن أنتهينا، حتى خرجنا نبحث عن قطارات المدينة، فهذه الشوارع لا تتجه إلا لمكان واحد: مصب النهر، قلنا لعل اتجاهات القطارات تتجه لمكان آخر!

فرصنا نتجه مع الطيور الى حيث المصب، وكأنها ليست طيوراً مهاجرة، قد ألفت هذا المكان ولا تريد أن تغادره!


وصلنا قرابة المغيب، توشك، اخرجت هاتفي، أبحث عن لحن يناسب اللحظة، لكني لم أجده في هاتفي، ولكن في ذاكرتي، لحنا قديما يعيدني لذلك الطنبور الذي كان يعزف عليه ذلك الخادم ألحانا لسيده كانها سحابة صيف، عابرة، لكنها تبقى بالذاكرة، بقاء ضوء القمر الذي بدأ يخجل تربيعا فوقنا، من فرط حبه بهذه المدينة.

- خل نرجع بردنا!

- ‏ايه وبدت ترش!

في الطريق مررنا بجانب الملعب، ووجدنا فريقين احدهم بطقم رياضي متكامل، والاخر يبدو انهم من ابناء الحي يقومون بالاحماء قليلا، توقفنا قليلا بجانب كشك لبيع المثلجات، مختارين نكهة القهوة والفستق، ثم طفقنا راجعين!


عندما دخلنا للمنزل، أقصد فندقنا الذي يبدو كالكوخ، كان الجو صاخبا قليلا، ولكن بشكل مبهج، وكأن رقصة فلامنكو شمالية تقام هناك، عندما دخلنا، رحبنا بنا، وقالا: اليوم مميز، لأنه يمر ٢٥ سنة على فندقنا هذا، ولهذا نحن نحتفل!

قلنا: وكل هؤلاء جيرانكم وليسوا نزلاء؟

قالا: أنتم الوحيدين النزلاء بيننا! وهما يضحكان بصوت عالي!

- نتعشى؟

- ‏نتعشى!

- ‏سنتعشى!

فجلسنا على طاولة رباعية الكراسي، كانت الأغنية التي تصدح فيها جو صاخب لا يليق بالمكان أو اللحظة، لكن بعد نصف ساعة تقريبا، تغيرت لموسيقى احتفالية بذكرى عروسين كانا من ضمن الحضور، ووضعا قطعة كعك صغيرة عليها شمعة حمراء على طاولتهما، ثم طلبنا منهما القيام برقصة لتتويج الليلة، جيران مع بعضهم، وبينهم روابط كثيرة، ثم قالت نوارا: من يقترح لنا اغنية؟

رفعت يدي وقلت: سأختار أغنية، قد لا تفهمون الكلمات، وليس بوسعي ترجمتها، لأني لست في مزاج مهيأ لذلك، ولكن الموسيقى كفيلة ان تصنع ليلتكما الخالدة!

فقالت تفضل!

فذهبت لهاتفها الموصول بسلك aux مع مكبرات الصوت، وأخترت أغنية زكي ناصيف "حلوة ويا نيالها" بحكم أننا في شمال اسبانيا، فشخص مثلي قادم من الشرق الأوسط، اخترت أغنية شمالية أيضا!

فلما شاهدهم ينطربون على الموسيقى، وقاما العروسين، قلت لنوارا: ضيفي هذه الوجبة للفاتورة!

وصعدنا للأعلى! نرتاح بعد هذا اليوم الطويل على أنعام الأغنية!



- ثم ماذا حدث؟ / "صوت أحد قراء هذه الكلمات!"

- ‏أترك الموضوع لخيالك النيساني، خصوصا أن كانت قد أصابتك حرفة الأدب عزيزي القارئ!


تمت

الأربعاء، 10 مايو 2023

برفقة موروماتشي!

- برد؟

- ‏على العكس!

- ‏شاي؟

- ‏أخضر؟

- ‏بالتأكيد!

ثم انتظرنا في حديقة بيير بوديس، بجانب بركة الضفادع المطلة على الحديقة الجافة!

بيير بوديس هذا هو رئيس بلدية مدينة تولوز الفرنسية، وهو منشئ هذه الحديقة كان ذلك في عام ١٩٨١م، لكن وما إن جاء الشاي الدافئ من مقهى "لو بيتي" حتى ناديت الناسك ليجلس بجانبي.

ثنى ساقية وجلس على ركبتيه، كما في جلوس ما بين السجدتين، ثم أخذ كأس الشاي الورقية بيدييه الاثنتين ورفعهما وقال: التأمل ممارسة تمر من قبل لآخر! ثم شرب الشاي!

كنا نحن نتحدث فيما بيننا كؤوسنا قد انتصفت!

ما إن انتهى، حتى طلبنا ثانيا، ثم التفت وقال لي: ألا يذكرك المكان بشيء؟

- ليت لي مثل ذكرياتك!

- ‏كيوتو!

- ‏اليابان! وهل تظن أن كان لي سبب أخر يدعوني لزيارة هذه المدينة الا ذكريات الشرق؟

- ‏وكيف ذاك؟

- ‏كان الدافع سلوك طريق الفاتحين حتى مدينة نيم، ولكن ما إن وصلت لأهم مدينة كانت مرتكز لهم في سيرهم الطويل، حتى عرفت أن المكان تحت الصيانة، كذلك وأنا على الطريق وجدت أن ممر رونسفال كان أيضا مغلق للصيانة، فلم يتبقى لي من الحكايات الشرقية الا هذه الحديقة اليابانية!

- ‏أتدري، لعل حالي أفضل من حالك قليلا، لعل وجودي هو نتيجة اتفاقيات توأمة المدن، فبيير الذي أعطى اسمه للحديقة، صبغ كل شيء في هذه المدينة بطابعه، وكأنه حاكم إقطاعي قديم، وكأن احد هذه الأشياء هو استجلابه لهذه الأشجار والفسائل من هناك إلى هنا، حتى يعطيك احساس أنك في احد الحدائق المحيطة بالسرادق الفضي أو الذهبي!

- ‏العائدان لفترة شوغونية أشيكاغا؟

- ‏بالضبط! ومن هنا اكتسبت اسمي: موروماتشي!

- ‏ولكن أليست هذه هي فترة الدخول الأوروبي إلى اليابان؟

- ‏بلى، وكان فرانسوا هو أكد أكبر المبشرين حينها، تحتاج أن تزور دير اليعاقبة هنا!

- ‏ولكنه تحت الصيانة أيضا!

- ‏اييييه لعلي احتاج أن ارتاح، المشكلة لا يوجد حمام جيد للاستحمام هنا!

- ‏نسيت أننا في فرنسا! يببدو أن لديهم ثأر شخصي مع الحمامات!

- ‏لهذا نحن نكره فرنسا!

- ‏كما قال أحدهم، تريد أن تكون أوروبا بخير؟ أمسح فرنسا!

ضحك وقام، وأومأ برأسه، لم التفت ناحية بحيرة الضفادع، ثم ضم راحتي كفيه تجاه أنفه واغمض عينيه وقال: شوجين ريوري! وقفز متحولا إلى ضفدع يقفز وينق مع هذه الضفادع!

كان مشهدا عجيبا ومضحكا في آن!

قمت من مكاني وأتجهت لمقهى "لو بيتي". فقلت لهما: هاه, هل حان وقت الطعام أم ماذا؟

قالتا: لعله وقت القهوة!

قلت لما لا, وطلبت النادلة واخترنا ما نريد، وعندما ذهبت ناديتها مجددا، قلت: هل بالامكان أن تغييري الاغنية؟

قالت: بالطبع، أي اغنية تريد؟

اخرجت هاتفي وكتبت اسم الاغنية والمطربة، قلت هذه، ولكن النسخة اليابانية منها!

فتبسمت النادلة وهي تستعجب!

وقد كان، ثلاثة فناجين من الاسبريسو وتراميسو مشترك!

كان اسم الاغنية: Poupée de cire, poupée de son (夢見るシャンソン人形) -  by France Gall - 1966



bon appétit

السبت، 6 مايو 2023

حدث ذات مرة في الغرب

 

بينما كان الليل يخيم علينا في اندورا، وسط الجبال التي تكتسي قممها بالثلوج، جعنا، فقلت لمن معي: أترغبون بالعشاء أو النوم؟ أنا نازل! وإن بدا الليل هادئ!


لبست معطفي، ونزلت أبحث عن أي مطعم قريب، يقدم وجبة محترمة، قابلة للأكل، حتى وجدت عند نهاية الشارع الذي تبدو نهاية كرأس مثلث، مطعما في الزاوية اليسرى، دخلت وصادفني نادل كأنه حارس شخصي، ذو ملامح أوروبية ليست صارخة، قال لي: اسبنيولا؟ فغونسي؟ رددت: انجليزيي!

فلما قدم إلي قائمة الطعام بالانجليزية، قلت له: لم تحديدا اخترت هذه اللغتين؟ أأنت فرنسي أو بلجيكي؟

قال لي: لا هذا ولا ذلك! أنا من هناك!

- من هناك!

- ‏نعم!

- ‏أين هناك؟

- ‏روسيا!

- ‏حقا! موسكو؟ سانتبطرسبيرغ؟ فولغوجراد؟

- ‏من الجنوب أكثر من هذا! وهو يضحك!

- ‏غروزني؟

- ‏هههههه أنا قوقازي!

- ‏السلام عليكم! ومددت يدي اصافحه!

- ‏رد المصافحة وهو يقول: وعليكم السلام ولكني لست مسلم، اسمي جون!

- ‏قلت صحيح، ليس اغلب القوقازيين الروس مسلمين مقارنة بالشيشانيين والتتار، ولكن مرحبا بك على كل حال فرصة سعيدة، اسمي رعد بالعربية المقابل الانجليزي له: Thunder

- ‏من أي البلاد أنت؟

- ‏من العربية السعودية!

- ‏هذا يفسر اهتمامك بالجنوب، البعد الديني!

- ‏البعد الديني وغيره!

- ‏حسنٌ، ماذا تريد أن تأكل؟

- ‏اترك الموضوع لك! لكني اريد طبقا بحريا خفيفا ولكن مختلف عن السائد!

- ‏عُلم!

بعد نصف ساعة احضر لي طبق حبّار مقلي بالملح! مع ان مظهر الطبق لا يوحي بذلك، كأنه البقسماط المعتاد!

المهم اني اخذت حلقة حبار وما ان وضعتها في فمي حتى انفجر ملح البحر من فرط تركيز النكهة ذكرني الطعم عندنا كنا نسبح في البحر صغارا ثم نشرب من ماءه بسبب الموج، تداخلت مع كل مضغة حتى البلع كل الذكريات التعيسة لشرب ماء البحر المالح اثناء السباحة فيه!

فلما انتهيت وانا ما استسغت الملح، حتى استقرت اللقمة في معدتي، ناديت جون: ما هذا؟

- ألم تقل دع الموضوع لي؟ هذا هو الموضوع! العادة يا سيدي أننا نتانوله نحن مع النبيذ الابيض، لكن مشكلتك انت انك مسلم! فقط! وهو يقهقه ضاحكا!

- ‏اها! قل هذا لفلاديمير الاول، هو الذي اختار الارثدوكسية على الاسلام، فقط لأنه يريد أن يظل سكرانا! وغمزت له

- ‏ظروف الرجل! تريد ماء؟

- ‏ما ظنك!

ذهب لجلب الماء، وعندما عاد وشربت منه قلت: لهذا يقولون ان القوقازيين مجانين!

تغير وجهه قليلا ولم تعجبه النكتة، ولكنه قال: هذه صورة نمطية!

قلت: بلى! لكن مطلقها ليس الامريكيين، انما الروس الأصليين! الشماليين!

فتهللت اساريره، فزدت وقلت: لهذا نحن في السعودية نحب التتر والشيشانيين والقوقازيين اكثر من السلاف، هنا تستطيع ان تقول بسبب الدين!

فضكنا جميعا ثم قال: لابد لي من أن أقدم لك شيئا على حسابي!

قلت: شاي مع سوكشا مُحلى بالعسل؟

- اااه! هذا مطعم اوروبي، وأنت تبحث عن اشياء شرقية جدا، أتدري، فنجان قهوة ربما؟

- ‏لا بأس!

أنهيت قهوتي، وعندما هممت بالخروج جاء ودعني وقال: لعلي أراك قريبا!

قلت له بالعربية: إن شاء الله! فضحك، ثم أكملت بالروسية فقلت: داسفيدانيا До свидания 

فرد بالمثل وهو يضحك.

قفلت راجعا والجو بدأ. يزداد برودة بعد منتصف الليل، فاخذت لقطة ختام وانا استمع الى Казачья - Cossack مع لقطة الختام للشارع الذي بدأت تزينه زخات المطر.



تمت

الخميس، 4 مايو 2023

..، وثم عبرنا البُرتات!


عندما قررت هذه الرحلة التي تتجاوز ٢٤٥ ميلاً باتجاه الشمال، خيل إليَّ السمح بن مالك الخولاني ومعه عبدالرحمن الغافقي يعبران هذه الجبال من برشلونة حتى لقي الرجل مصرعه شهيداً في سبيل الله في تولوز!


لسنوات وسنوات كنا نسكن في الروضة شرقي مدينة الرياض، خلف شارع عبدالرحمن الغافقي، اذ ان اسم الرجل كان دوما حاضرا في حياتي، اذ أن عبوري للطريق الحامل لاسمه ليل نهار، كانه رجما بالغيب، لعبور ذات الطريق الذي عبر منه غير مرة!


ولعل هواي الأُموي القديم التليد، عزز من بقاء اسم الرجل في الذاكرة، فحتى عند ارتحالنا عن الحي ظل طريقه اثيرا عندي، احرص كل الحرص العبور منه ومن خلاله لطرقات العاصمة المختلفة، كجزء من الحنين، للمكان، وللذاكرة!


في برشلونة، راودتني الفكرة، فكرة عبور البيرانييه، من داخل مكتبة، كان أمامي كتاب "عندما كنا عربا" كتاب أميليو غونثالث فيرين الأندلسي ابن اشبيلية، فتذكرت أن أول من عبر كان الحُر بن عبدالرحمن الثقفي، فقلت في نفسي: لأكن اسما رابعا بينهم، كما قال سميح القاسم:

سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا

سبيل الشهادة كان السبيلا

وشائت خطى عمرهم أن تسيلا

وشائت خطى عمرنا أن تسيرا 


فلم لا نتتبعها، أو ما حولها، وقد كان!

في صباح اليوم التالي نزلت من غرفتي لتناول الافطار في مطعم الفندق، كان الصباح باردا، ونصف المأكولات لا يمكن تناولها، فاكتفيت بكوب شاي وزبدة ومربى المشمش، كان كافيا للأمداد بالطاقة، وانطلقنا، وازدادت حرارة شمس الضحى قليلا، وبدأت الطريق تضيق، لكن تزداد وجهتنا للأعلى، وكلما ارتفعنا تتغير درجة الحرارة رغم ازدياد كثافة السحب، فنحن ما بين هواءٍ باردٍ وشمسٍ ساطعةٍ حانقة!

مع ازدياد وعورة الطريق، تزايد تكاثف الضباب حولنا، حتى بدأت اشعل اضاءة التنبية في السيارة للسيارات القادمة من الاتجاة الاخر او خلفي، كي تنتبه لي، وفي وسط هذا الضباب الذي يزداد كثافة، بدأ يخيل لي أني أسمع صوت صهيل بدلا من العصافير، ومعهم صوت حزين يعزف عودا على طريقة زرياب، وينادي تلك البلاد، ويريدها أن تنظر إليه من فوق هامات هذه الجبال.

انجلى الضباب من امامي كستارة مسرح، لتمتد أمامي طريق طويلة ضيقة ملتوية، تبدو قمم جبالها مُكساة بالثلوج، وأنا أقول لرفيقتي: أنظري! ذلك الفارس المتوج الذي يسير عكس طريقنا يريد النزول نحو الطريق التي جئنا منها، تاجه مميز من ذهب، وخيله أوروبية بامتياز، ما لبث ان ترائت لي محطة وقود تعمل فيها فتاة بملامح شرقية ذات شعر اسود تتحدث الفرنسية بلكنة باسيكية، توقفت قليلا، فسألتها إن كانت تتحدث الانجليزية، وعن المكان الذي نحن فيه؟ كأنه اشبه ببرزخ بين مكانين تختلف فيه الازمنة والأماكن!

قالت أن اسمها نورا، فسألتها عن منشأ الاسم، فقالت انه لا تيني، لكن أن كنت تعني مرور التاريخ في عروقي لا تستبعد، كل المنطقة هنا قد يكون لها جذور لا نعلمها، لكن لا تخبر أحدا اني قلت لك ذلك! وابتسمت وأمالت رأسها قليلا لليسار مع ميلان شلال شعرها، فانجلت بعض الغيوم ليظهر منها شعاع شمسٍ دافئ!

التفت خلفي فإذا بفارس عربي تبدو عليه ملامح الإمرة، مر بجانبي، ثم سأل؟ أرأيت قارله؟

قلت مه!

قال: قارله الكبير! الامبراطور الروماني!

قلت: اوليس فرنجيا؟

قال لي: هل أنت من اتباع الحسين بن يحيى الأنصاري؟

قلت: لا!

حينها فقط، التف ذلك الفرنجي صاحب التاج نحونا، لكن كلما اقترب، تتلاشى صورته داخل الضباب شيئا فشيئا حتى اختفى وهو يقول: رولاند!


اغمضت عيني من جديد وفتحتها، فاذا كل شيء عاد الى ما كان عليه قبل الرحلة، فقط احتاج الوقود، وزاد للطريق!

- أين تلك الباسيكية؟ سألت رفيقتي!

- أنتظر أنها هناك، داخل الدكان الصغير!

فدخلت، ثم قلت: كم تطلبين لقاء هذا يا نورا؟

فاشارت انها حوالي ثلاثة وثلاثين يورو، فتأكدت أن ما كان هو اشبه بحلم يقضة او شرود، لكن ما ان فتحت الباب، حتى رأيتها تلوح بيدها لي وتقول: صحبتك السلامة!

ذهلت، ولكن التفت خلفي لعلي ارى احدا ممن رايتهم في حلم اليقضة هذا، لكني لم ارى سوى الضباب!

اكملت طريقي بالسيارة وانا اتفكر بالذي حصل معي منذ قليل، ولكن ما هي لحظات حتى تلاشت كما يتلاشى الضباب.


استمريت بالمسير حتى دخلنا مدينة وسط الجبال، كما الحلم، وكأنها محطة عبور، توقفنا فيها لليلتين، ثم انطلقنا منها شمالا، لا نتوقف حتى نصل الى المكان الموعود: تولوز!


دخلنا المدينة من جنوبها الشرقي، اول الضحى، مستمرين في السير على طريق تغطيه الاشجار تتساقط منها ورقها بشكل يبدو وكأنه قصيدة يملؤها الشجن، لكن ما ان اقتربنا للنزل الذي سنبات فيه ليلتنا، خرجت لابحث عن موقف لسيارتي، قريب من المكان، وجدت موقفا قريبا من مجرى النهر، وعلى ظفته الاخرى آثار مقبرة!

حاولت أن اتعرف عليها، إن كانت أحد الوجهات التي علّمت عليها في الخريطة، لكن كلما اقتربت منها، ازدادت برودة الجو، والضباب.

تجاوزت السور الحديدي، كان صوت صرير الباب يوحي بالرهبة، فلما تقدمت، وجدت قبرا بلا شاهد، ومسوى بالارض، وسط بينها، والبقية على ما ألف أهل البلد، وجدت عنده رجل يجلس على ركبتيه أمامه، اعتم بعمة قد اكلتها الغبرة، رمى عذبتها خلفها، وبجانبه سيف مكسور ملقى، مُدارع، وان كان في درعه شقوق، من اثر الضرب عليها، حنطي اللون، تبين ذلك من يديه، لم اسمه منه الا كلمه: ارجو أن يتقبلك الله!

حاولت اقترب اكثر، لكني تعثرت بغصن شجرة اوقعني على الأرض، فلما رفعت رأسي، لم اتبين الرجل، كأنه ذهب!

فذهبت لذلك القبر الذي كان عنده، ولم اجد ما رأيت سوى دمنة، فقط غطتها الزهور، كأنها الطلل!

فقلت في نفسي: لعل ما رأيت في يقضتي هو توديع عبدالرحمن الغافقي للسمح الخولاني بعد استشهاده، كأني ارتحلت لهذا التاريخ مرتين، فلم يبقى من اوجه الارتحال الا أن اصادف نابليون بونابارت! فأكون قلبت كل صفحات تاريخ المنطقة!


قفلت عائدا مشيا إلى الفندق، بعدما انقشع كل شيء، وعند مدخل الفندق صادفت رجلا قصيرا به صلع يلبس بدلة زرقاء ببنطال ابيض ضيق، ففزعت!

 - أهو هو؟ أهو حلم جديد؟ أم هلوسة من المرتفعات؟ - قلت في نفسي -

فلما اقتربت منه قال لي بالفرنسية كلمات لم اتبين معناها، فلما اعادها بالانجليزية كانت: أمعك ولاعة؟

قلت: لا، لكن قد يكون مع عامل الفندق!

فدخلنا، فتبين بعد قليل أنه جاري في الغرفة المقابلة، التفت له وبابتسامة وكلي ثقة: لا تقل لي ايضا ان اسمك نابليون؟

رد قائلا: ايضا! اسمي آراميس! اتريد شيئا؟

فانسحبت بكل خجل لداخل غرفتي، وبدأت اعد حوض الاستحمام الدافئ للاسترخاء، ثم دخلت في حالة تأمل طويلة، انتجت هذه الاسطر!



Au revoir!


الأحد، 30 أبريل 2023

فيكي كريستينا برشلونة


تقول جورجيت صايغ:

" دلوني على العينين السود وعلقوني

يا ليل الي ماله حدود خبيلي عيوني "


مع لحن بيانو هادئ في الأفق، تأتي هذه المدينة كقبلة على جبين المملكة، عندما تطأ قدماك شاطئها، تشعر أن حفيف الشوق يناديك، كأنه السحر، حتى تغوض داخل أراضيها، وما ورائها.

معها كأنك تتشبب بحسناء بها بقية من جذوة أندلسية، لا تشعر بغربة في المكان، مألوف، كأنك سبق وأن زرته، فالبرغم من النهار الطويل، والحر الممتد معه، المختلط أحيانا برطوبة، ألا أن ليلها ليس له حدود، كأنه بركان حب وصبا وعنوان وهتافات كهتافات انتصارات ناديه، فتأجل النوم لساعات تالية!


لكنها مدينة تقول: هيت لك! وربما تبادلها الغواية لكن دون ان يقد القميص، فتتكبر عليها قليلا، فتتصاعد أبخرة الجفاء قليلا لتحوم بالمكان، يخفض عليك صوت البلابل التي تحوم فوق الأشجار والنخيل، وكأن هناك رابط يعيد لصخورها الشاطئية.

تعود، لتعود رصف الأحجار، ومراقبة الرسائل المنتثرة بطول المدينة وعرضها، من كل ارجاء المعمورة عدا سكانها، كأنهم الغرباء، وهم أهل البلد.

ومع هذا اللون الأحمر يلف البلد، من لون شمس المغيب، حتى الأرصفة والجسور، وجداريات المدينة، كأن اللون يحكي في شجن عن أهل البلد الذين غادروا ولا تدري أن هم، الا انها تشير الا حيث يشير تمثال كريستوف كلمبوس المنتصب أمام رصيف الميناء، باتجاه الغرب، كأنه يخبر عنهم، وعنده تجد الأجابة!

وكما تقول الأغنية الشعبية:

" ع الله تعود وترجع تتجمع عشيرتنا "

ولا يبقى وسط هذا الزخم الا المتشردين يعزفون الحانا للمارة، لفيكي وكريستينا وخوان وخوليو، ويطل الليل بعد التاسعة عليهم جميعا، يمسح الدمعة ويعيد رسم القبلة على شاطئ المتوسط في كل فجر، شعاع الشمس!

لترى من خلاله كل التاءات المنتهية برفقة برشلونة!

فلا تقلقي أيتها المدينة فقد كانت لنا دنيا فيكِ!


الخميس، 6 أبريل 2023

نسرين

 عزيزتي نسرين"


أتدرين ما يجول في خاطري الآن؟

فكرة مجنونة تريد الخروج من عقلي لتعبر عن ذاتها!

ولكن هل يمكنها فعل ذلك من دوني؟


كان لي ثلاثة أيام، اتذكرها، وهي تحاول التموضع في مكان ما على هذه الورقة، ولو كان مكانا عشوائيا، ولكن تحاول عبثا التمسك بموقعها الحالي!


تدافع بوحشية الشوك الذي يحيط بها، وتحرمني من اشتم رائحتها.


هذه الزهرة تحتاج لقطف، حتى ابقيها في غرفتي، انظر لها، وانا اعزف لحنا كأنه عرس، عرس تدوينها."





....، ثم قمت من مكاني وقد اخذت معي الزهرة الارجوانية بجروح طفيفة، وفي ذهني عازف ناي يعزف بشجن غريب.







الأحد، 19 مارس 2023

نشرة غنائية

 خرج من عندهم، ثم ركب سيارته، وبدأ عازف العود يدندن كما الهمهمة، وكانت خلف العازف جوقة:


قال كنا نريد أن نلتقي وكأن اللقيا كانت محرمة علينا، وقد حان الوقت!

نلتقي، قلت، بعد شهر، شهرين، المهم أن وقتا ما مضى، عام، عامين، جيل، جيلين، وتمدد على الأريكة، يبحث عن الراحة، عندهم!

فغنت الجوقة: مضى يبحث عن معنى هذه اللقيا، عن الحقيقة خلف مبحث الراحة!

ثم عاد العازف لتقاسيم اللحن!

مد يده ليغير الاغنية من جهاز التسجيل،

لكن العازف استبدل العود بكمان وبيانو، وبدأ ينقر ثلاثاً:

قال: كأنه ينقر على باب روحي؟ هل عندي ما أعطيه اياه؟ هل يبقى عندي شيء؟ وإن وهبته روحي؟

فغنت الجوقة: يا هذا الطارق، ارجع، فأن صوتك المزعج يحرمنا النسيان!

فتسارع اللحن، فمد يده مرة أخرى، ليغير الأغنية،

فعزف لحنا، وبدأت الجوقة تلتلم اغراضها لترتحل...,

وتصاعد اللحن شجياً، وكذلك غبار الرحيل، شيء يشبه هجرة الروح، وإن كنت في مكان ما بجانب كل ظروفك وخياراتك الا ان عقلك وروحك يحلقان في سماء سابعة!

هل أُطلق عيار ناري أريد به هذا الشتات، كبندقية ريتا؟



تمت



*بندقية ريتا: هي من قصيدة ريتا والبندقية لمحمود درويش

الأربعاء، 1 مارس 2023

شرب الشاي وأنت تعاني رشحا /كلاكيك مرة ثامنة/

 الساعة خمسة وعشرين

لا اتوقع ان الساعة التي كتبت فيها هذه الاسطر ستحدث فارقا كثيرا

لكن تحت وطأة ذاك الذي باع عباته شتاء، بدأت استشعر برودة داخلية، وألم في محجر عيني وسعال بسيط، لكن انفي يكاد ينفجر، فأن في المكان وخارج الزمان، يقوم عقلك الٱن باعدادات حفظ الطاقة!

تحاول تذكر اغنية قديمة، بكل التشويش الذي يكون من سوء التسجيل، او تقادم الزمن عليها، هذه واحدة من المحاولات التي يحاول عقلك أن يشتت فيها جهودك المباركة في استمرارية مكافحة أعباء اليوم.

ثم تقفز الأفكار المجنونة كلها أمامك كقطة مشاكسة، وانت تحاول مكافحة هذا الرشح!

فقررت ان اترك كل هذا العبث، وان استمع لاحد اغنيات فرقة ابن عربي، وانا اشرب الشاي، حتى ادخل في حالة كالتي وصفت: في المكان وخارج الزمان!

وصرت أخذ قسم  أبو الحسن الششتري بالعقيق على أنه قسما للون كأس الشاي الذي أسرني محياه!

أما طعمه، فلا اتبينه جيدا بسبب الرشح، فرضيت من كأسي هواي بها وأن ظنني الناس مجنونا!


تمت


الأحد، 5 فبراير 2023

ليلة ١٥

 في غمرة النظر لقمرة ليلة ١٥، تذكرت ليالي انهمرت فيها دموع عينين على شاطئ جفنيها

في تلك الليلة المقمرة، في اليوم الرابع عشر من الشهر، تذكرت تلك للذكرى التي جعلتها ترسل دمعا على شاطئ جفنيها

للثمر وجه شاحب، يزداد وضوحا كلما زاد اكتمالا، وكأن سحره في اختفاء جزء منه، كأنه الرجاء من الدعاء، أو أمنية عوده العشيقة لمعشوقها

هل الذكرى هي كذلك؟ تمني عودة المستحيل؟

ولكن من غير انتظار؟

تتذكر الاصوات والنظرة، وحتى طعم كاسات الشاي التي شربتنوها!

هل الحنين هو الذي يشكل هذا القمر المكتمل، لكنه يضفي حزنا بوجهه الشاحب؟

لا أدري! لعلي قد كبرت وضعف قلبي، لعل بدأت تظهر فيّا علامات الكبر، ربما، لا ادري! لعل الاكثار من قول لعلي ولا ادري وربما احدى هذه العلامات!




الأحد، 15 يناير 2023

في وداع الهُمام

 ثم يختفي هكذا فجأة

دونما سابق انذار

لا ندري أي قارعةٍ ألمت به

صمتٌ يطبق كليل حالك على مسافر

ثم فجأة بلا مقدمات:


"تحياتي واشواقي ، محدثكم في الطيارة 

والله كان ودي اقابلكم بس الايام الاخيرة كانت حوسه وقروشه 


بيض الله وجيهكم ما قصرتم 

لنا لقاء قريب ان شاء الله ، موعدنا في شهر رمضان"


لكن هذا ليس صحيحاً!

لا أعني المشاعر مطلقا، ولكني أعني اللقيا ما قبل السفر!

هو يكره لحظات الوداع بقدر كرهه لرائحة المطارات

ولا يريد أن يبقي أي ذكرى لأي رحيل

يريد ان يجعل من فيلم الذكريات الفوتوغرافي جزء منه مسود

كمحاولة المصور عندما يضع فيلما جديدا فيصور صورا سوداء حتى رقم الصورة المطلوب

كأنه رسالة جزء من نصها مفقود في هاتف قديم

هو لا يريد أن يقول وداعا

معاذ الله

لأن ذلك يعني أنّ كلّ شيء قد بات منتهياً

العصافير والموسيقى

والمطر والأعشاب والكتب

وكل الأشياء

معاذ الله

أليس هذا قول نزيه أبو عفش؟

 لأنه يريد أن يختفظ بالذكرى كما يحتفظ الصبي بألعابه الصغيرة والقديمة

يريد أن تبقى بهجة التحية كبهجة الفرح بكلمات الطفل الأولى حينما يبدأ

وتظل تلك الشرفة البعيدة، التي يطل منها على حديقته الصغيرة، يحتسي فيها كوب الشاي العتيق، وهو ينظر إما صديق أو خليل أو أخ أو قريب يقول له:

صباح الخير، كيف أصبحت؟ أهُمامٌ أنت؟ أم كالأُسامة تنتظر الوثوب؟

عموما:

سأترك البيانو يعزف في بوابة المطار، وأقول شكراً للطريق الذي يلم خُطانا

وللطائرة التي توأمتنا في ذلك المقعد

وللزمان الذي يعيد جمع ذكرياتنا في ذلك البال

في اليوم

كما الأمس

وفي الغد


مصحوب السلامة أينما حللت ونزلت!


الأربعاء، 11 يناير 2023

أتعلمين أي حزن يبعث المطر يا مريم؟

 في ذلك اليوم البارد الملبد بالغيوم التي احتبس فيها دمع المطر، اُرسلت تحية، وكان الرد متأخراً كما المعتاد، لكنها هلّت ورحبت!


- مالك؟

- احتبس علّي النص!

- أي نص؟

- هل يهم؟ المهم أنه يحتبس علي، لا أعرف ما السبب، لا طبيب جس خافقي بقلم او بغيره، لكني ما زلت افكر، لم كل هذا؟ 

- لعله يعتريني مثلما يعتريك، لكني احاول أن اعصر ذاكرتي حتى اكتب، وبالرغم من هذا، كلما انهمرت افكار او كلمات دونتها سرا كي لا تهرب، ثم اعاود اعتصار ذاكرتي من جديد!

- لكني احتاج دفعة! لم تعد الاكواب تغني! كل ما هو قابل لقدح شرارة الالهام، حتى لو كانت شربة ماء، لم تسعف في الاشتعال!

- جميل شعور الازدحام هذا، ستاتي لحظة تشعر انها تنسل من بين خيوط افكارك لتتسلل الى يديك بكل خفة، كمولود حديث ولد توا!

- تعنين محاصرة الذكريات؟

- والمشاعر! كلحن موسيقي يرسله اشجانا، يمر فيه بطل فيلم ما بلحظة تأمل كالحلم!


 .... ثم ساد صمت طويل اخترقه لحن جوقة رباعية تعزف عودا وقانونا وطبلتين بايقاع هادئ وثابت ....


- لم نحتاج تفريغ ذكرياتنا؟ أن تذكي فينا ما تذكيه مما نريد نسيانه احيانا؟

- هل تحملين كاميرا؟

- ما جدوى السؤال؟

- اذا اردتي حبس لحظة اما ان تصوريها او ترسميها، وكذلك المشهد في فيلم فيديو، ولكن كيف نحبس شعور وذكرى؟ أن نكتبه! وأن احتفظ بكل ثقله وتفاصيله، لكن يظل الرجوع اليه كرجوع في الزمن!

 - افهم كلامك وافهم مقصدك، ولكن سبق لي وأن رفضت بعض الذكرايات المحبوسه في صوره او غيره لا لشيء، ولكن لأنها تحمل في جناباتها ذكريات مزعجه ..

- أهذا هروب يا مريم؟ هل هززتي جذع النخل؟

- هززته وانتهى! وجنيت الرطب، لكن مولودي لم يحن وقته بعد!

- سياتي هذا المولود وقد يكون وحيداً ولكنه سيكون كما اردتِ، لعل اكثر ما قد يناسب هذا الحديث، هو أغنية روبرتو هذه: 

core ngrato!



ثم عادت تلك الجوقة تعزف من جديد



الثلاثاء، 3 يناير 2023

شاهد!

 اسوأ شعور هو شعور التناقص!

كان هذا الشاهد هو الشاهد على تلك اللحظة الفارقة، عندما وعى بهذه الفكرة! فكرة التناقص!

علم حين شاهده أنه أولد من جديد، وبدأ الشاهد بالذهول!

وكأنه يسمع قلبه يبكي، عندها شعر في قرارة نفسه أنه ولد من جديد، وينظر لمسجى وقلُب إمرأةٍ مفطورٌ لا يدري لأي جهة يلوح ليبكي!

حنينٌ يكوي الظلوع، حنين المفارق، هُنا فقط، ولا غيره معي!

روحٌ متعبةٌ من هذا الفقد المتتالي، ولكنها ليست جزعة ولا معترضة على مقادير الأيام!

وكأن الشاهد استمع لشيء يفيض ولا يجد إناء يفيض فيه ليحتويه، وهذه الروح ليست زجاجة ولا حتى قدح، كوعاء مثقوب لم يجد صانعاً له!

وهذا الألم الذي لن يندمل، لن يموت!

وكيف يموت وقد غدت صورة الموتى الباكين على موتاهم ماثلة، لمن وهبت له الحياة، هنا فقط تتجدد في عينيك كل المعاني!

 

ومشى الشاهد خلفه وهو ينظر .....