الأحد، 26 نوفمبر 2023

نابليون - 2023: خسرنا كل شيء الا الشرف!


يبدأ هذا الفيلم المربك بتمهيد عن الثورة المنتهي بمطالبة الجماهير برأس ماري انطوانيت خلال فترة روبسبير.

يظهر هنا في الخفاء ذلك الملازم الايطالي -أو لأقل- الكورسكي: نابليوني بونابارتي، من بين الجماهير متواريا في الظلال خلفهم، لكنه بعيدين حذقتين ترقب كل شيء حولها.

نابليون هنا شاب ذو طموح شخصي خاص، يريد انتهاز الفرصة التي تضع اسمه على المشهد بشكل صارخ، بعيدا عن رجل مثل روبسبير لا هم له الا تقطيع الرؤوس واطعامها للجماهير الجوعى!

ثم تبدأ الرحلة!

الرحلة التي جائت كتقليب صفحات لباحث مغرض متلهف للحصول على النتيجة التي يريدها!
وتحت حجة أنه فيلم هزلي، على غرار فيلم The Death of Stalin - 2017 الا انه لم يقارب التجربة حتى.

الفيلم اتخذ هذا القالب واستند على ثلاثة افكار:
الاولى حدية الشخصية
الثانية الطموح غير المنتهي
الثالثة العلاقة مع جوزافين (وهي اكثر هذه الافكار صُراخا)

نابليوني الكورسكي الذي كان يكره الفرنسيين لعدة اشياء منها التافه ومنها المنطقي، من نطق حرف R الى تندرهم على اصله الريفي رغم شهره عائلته في كورسيكا، الا انه كان يحب فرنسا، والجيش الذي كان ملازما له!

شخصية مثل هذه تحمل متناقضين، لابد ان ينعكس ذلك على ايهابها، فكي تكون شجاعا لابد أن تلفك الرهبة والخوف احيانا، ولكي تقدم، لابد ان تخاف ان تتسمر رجليك مكانها، وكي تبكي يجب ان تحاول ان تمنع نفسك من البكاء، وترجمة الانفعالات قد تخفي بداخلها شخصية قد تبدو طفولية، وان كانت داخل جسد اخر رجل امبراطوري يحكم ويقاتل بنفسه ويسن الشرائع.

ولهذا كان طموحه الكبير لا يقف الا عند نهاية حدود هذا العالم كُله!

لكن كيف ترجم لنا الفيلم كل هذا الذي نعرفه او قد لا نعرفه او محاولة القراءة للشخص والحقبة؟

كالتالي:
اجاد في شيء واساء في اشياء!

مما اجاد فيه، مثلا، خلجات الرجل الطموح والمحارب الذي يحارب مع جنوده الذي يحبونه لانه يخضب الأرض بدمه معهم، وكيف أنهم كانوا يطيعونه لأنه الملهم: نابليون بونابارت!

ولكن من اساءاته، مثلا، تمحور كل شيء حول جوزافين وكأننا أمام مسرحية هنري الخامس لشيكسبير، وكأن سبب حرب هنري على فرنسا هو إمرأة وكلمة!

لكن اكثر الاساءات تفجراً، هي تقليبه لصفحات التاريخ كتقليب بائع روبابكيا يبحث في عِلّية منزله بين صناديق الورق عله يجد شيء قديم اثير يبحث عنه، لينتهي بالاخير بأن يرمي كل هذه الصناديق بشكل غاضب ويخرج من منزله وان لم ينتهي من عمله!

لأخرج من صالة السينما كما خرج نابليون من أرض ووترلو، وهو يحمل عنان حصانه ويقول: خسرنا كل شيء الا الشرف!
فخرجت زبيدي مفاتيح سيارتي وانا اقول: خسرت كل شيء الا مشاهد المعارك!

واسير بين ممرات الصالة وانا اشاهد نابليون يكتب ثلاث كلمات اخيرة: فرنسا .. الجيش .. جوزافين ..
وانا اتمتم: خواكين .. ريدلي سكوت .. سينما

تمت

الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

وثم عاد الشاعر الى مدينته


كانت هذه المدينة، فلورنسا، تنادي زائرها مثلما كان ينادي دانتي حبيبه بياتريس، أكان لابد يا بياتريس أن تضيئي النور؟

قد دخلناها من الجنوب، خلفنا روما نيرون، من دون لحنه الأثير، إنما كنا نسمع لحنا توسكانيا يطوف حولنا، وكانت الظهيرة، بدأ كل شيء هادئ، شمس ساطعة، حولها غيوم جمّلَت مُحياها.

قبيل نهاية العصر، نزلنا قرب قصر فيكيو، فإذا بالجو تلبد بالغيوم، وهلت الامطار قليلا، فتوارينا بدعوة من صاحب مقهى في ساحة ديلا سنوريا حتى يخف المطر، جلسنا، وطلبنا القهوة، لكني اصريت ان يعدها على طريقة اهالي نابولي بالرغم من كوننا شمالي البلاد، ذهب من عندنا وهو يضحك ويقول: قادمين من الجنوب!

المهم ونحن ننتظر ونتحدث، اذ بالمطر يخف قليلا، فتبيت رجلا يلبس لبسا يعود لفترة ليست موغلة بالقدم، لكنها قطعا ليست حديثة، كأنه لباس القساوسة لكن ليس منهم، مرتدنيا قلنسوه حمراء مُخاطة ببرنوس احمر قانٍ كأنه زهرة حمراء وسط حقلٍ اخضر، اقتربت منه، وفي طريقي لوسط الساحة اذ يلتفت نحو رجل روماني مظهره ضبابي كأنه الطيف، بدأت بتحريك عيوني لعلها زغللت من تأثير المطر، لكن عيناني لم تخطئ، رجل يرتدي لباس روماني تقليدي قديم، ذو لون سياني مميز، قد حَلَّقَ رأسه بورق الغار، فلما اقترب من صاحب القلنسوة، مد له مخطوط، وقال له: حتى هذه المخطوط لم يسلم منك ايضا!
فرد عليه بقوله: الا يغفر لي ان كتبته قبلا؟
قفال الاول: الغفران يأتي بعد عدم تكرار الذنب، لكنك اعدت تكرار الخطيئة!
عندما لمست كتف صاحب القلنسوة، تسامى هو الاخر لحالة الطيف كرفيقه، لكن المخطوط سقط منه على الارض!
تلقفته، فإذا هو بخط عربي لا تخطئه العين، كان في مطلع المخطوط:
"وأعلم  - أعزك الله - أن الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة"

فقلت في نفسي: سرقة جديدة تحت بند التأثر! وضحكت!

عندما اردت العودة، وجتها قد جائتني وهي تبتسم وتقول: متى جئت بهذا المخطوط، ازيارة الى المكتبة مرة اخرى؟
قلت: بل لبيت شاعر!
قالت: وشاعر يزور شاعرا! وغمزت لي!
قلت: لعله كما تقولين! وضحكنا!

في الطريق توقفنا عند محل يبيع حرف يدوية، دخلنا لاني وجدت لوح شطرنج مصنوع يدويا واحجاره تمثل عائلة المديتشي، فتمسكت به تمسك الطفل بلعبه، وما ان رفعت الرقعة على طاولة المحاسب، حتى دخل رجل امرد، يرتدي ايضا قلنسوه حمراء، لكن البرنوس ابيض، ولم تكن مُخاطه به، مد يده للمخطوط الذي تأبطهُ وقال: اعتقد ان هذا يخصنا!
قلت: وعدت انت ايضا!
قال: يحاول بلدنا ان يغفر، لكن بعض الذنوب لا يغفرها البشر! استميحك عذرا!
وخرج! وهو يتلاشى كلما ابتعد عن ناظري!

التفت لها وقلت: هل رأيتيه؟
قالت: ليت لي مثل احلام يقظتك، لكن احك لي، فأنا احب حكاياك!
قلت: نحكيها في بيت الشاعر!
قالت: نحكيها في بيت الشاعر!

وقد كان!
بيت دانتي اليغيري في فلورنسا وهو يتناول حياته فيها حتى نفيه ومعيشته بين روما وفيرونا حتى مثواه الاخير في رافينا.
اما الروماني فهو فيرجيل صاحب الإنيادة، اما الامرد فهو جيوفاني بوكاتشو الذي يعتبر المتيم باعمال دانتي وكأنه المعرّي في مُعجز أحمد.

ثم تحدثنا كثيرا حتى اتينا للغرفة التي فيها ابرز اللغات التي ترجمة اعماله، لاجد رجل اعمى ذو لحيه ناعمة طويلة قليلا واعتم بعمه عربية وكأنه مسافر عبر الزمن، فقلت: يا شيخ اترى؟
فقال: لا، لكني اسمع، وسمعتك تقول بوكاتشو، هذا النذل سيخفي حقيقة علاقة طوق الحمامة بكتاب حياة جديدة، كما اخفى علاقة كوميديا دانتي برسالتي!

سألته: أأنت أحمد بن عبدالله التنوخي، المعروف ب...
عندها دخل ذلك الامرد، وهو يشير باصبعه نحو وجهي مباشرة، وكان اصبعه امام انفي تماما وقال لي: أخرج! أنت وشيخك الضال!
قلت: على رسلك! سنخرج!

عندما نزلنا، جلسنا قرب مطعم صغير، وسألت "شيخي الضال" إن كان يريد أن يأكل، فقال أنه يريد سلطة!
أما أنا فأريد لحما!
فقام من عندي وادار ظهره وقد تسامى هو الاخر لحاله الطيف الشبحي التي اظن أن كل سكان هذه البلدة يجيدونها!

فقالت لي: لعلك تريد ان تزور بيته الاخر في فيرونا!
قلت: تزورينه معي!

وقد كان!

تمت!

الخميس، 2 نوفمبر 2023

مارتشيلو، تعال! بسرعة!

 ما ان حطت قدماي المطار، حتى شعرت أنني في مطار القاهرة!

لا اعلم يقينا ما هو جو الألفة الذي حام جو اللحظة، وجعل ذلك الموضف المكتهل، ان يجعلنا نمر سريعا مع عائلة اخرى، نحو صديقته موظفة الجوازات كي تعطينل ختم الدخول، لنجد اسضا حقائبنا بانتظارنا.

ومما زاد في اجواء القاهرة، سائق التاكسي الذي اقلنا الى الفندق، فعندما سألنا من اي البلاد نحن؟ فقلنا العربية السعودية، ادار المذياع لمحطه ايطالية تذيع اغنيات عربية جلها مصرية.
واثناء الحديث عندما سألته عن المدة الزمنية التي يستغرقها القطار من روما الى مدينة نابولي قال: ولم القطار؟ انا اقلكم! فقلت له بالعربية - لا اراديا - متشكر!

عند باب الفندق، مدت له ورقة بقيمة خمسين يورو، فقال لي مازحا: بقشيش؟
فقلت له: buono!

لكني وجدت نفسي مدفوعا، لوسط المدينة، حيث ان صور النوافير اعلى من اي ضوضاء في هذه المدينة.

وبمناسبة ذكر الضوضاء، هذا الصخب ايضا اضاف لها من صورة الشعور بحالة القاهرة، حيث برغم اشارة المرور الا انك اجد شرطي بصافرة هو من يتحكم بالطريق، والمشاه اصلا لا يلقون بالاً للوحات الارشادية.

لكن بالرغم من هذا، حرصت على تتبع الصوت، حتى جن الليل، فتساقطت رشات المطر الطفيف علينا، وهذه اجواء غير معتادة هنا في روما، ولهذا كنا تكسر كثير من القواعد لنزيد من حدة الاشياء غير المعتادة في المدينة، كشرب الاسبريسو ليلا، تجرعا لوقود موتور يبحث عن شيء فقده من سنين عديدة.

وكان عازفا يجلس على قارعة الطريق، يعزف لحنا كأنه لنينو روتا على آلة الماندولين، فرفعنا رأسينا، اذ أن المنظر الذي كان أمامنا كأنه صندوق الدنيا، ذلك الصندوق الذي يحمله الكحواتي على ظهره كي يحكي القصص من خلال الدمى التي بداخله.
توقفنا، وبدأنا نميز صوتا ينادي مع علو صوت النافورة: الحياة حلوة - لا دولتشي فيتا / La Dolce Vita
وما زلت احاول تبيان اللحن الذي تأكدت أنه لنينا روتا!

هناك عند قريبا من نافورة تريفي، وجدت قبعة على كرسي قبالة النافورة وعلى الارض، ربطة عند بدلة توكييدو ملقاه غير مربوطه، ما ان اقتربت منها، حتى عاد الصوت لينادي:
" مارتشيلو، تعال! بسرعة! "
وعندما التفت الى النافورة تلاشت كما يتلاشى دخان البخور من المكان، وعاد الصخب اليها - اي النافورة!
مع فرقة تغني اغنيات كلاسيكية معروفة، قلت لرفيقتي:
- نأخذ اللقطة قبل أم بعد الجلاتيو؟
- بعد، دعنا نستمتع باللحظة!
وقد كان، وكنا نسمع الفرقة وصوت الناس يغطي حتى الازقة التي تؤدي للمكان.

وعند الصباح كان شهريار الذي لن يسكت عن الكلام المباح، فما زال في جعبة صندوق الدنيا الكثير.

تمت