السبت، 26 أكتوبر 2019

VICE-2018 نائب الرئيس: قراءة في التسرطن السياسي!


عندما ترغب بالوصول للذروة لكنك تتخبط في قمة القاع، يصير لا هم لك إلا أن تستثير غرائز السبع والوحش والحوت والقرش، لا هم لك الا الافتراس، كل شيء هو حق لك، مشروع لك، لأن المهم ان تصل، ولا شيء غير ذلك.


فيلم نائب الرئيس هو ثاني فيلم يتناول حقبة الرئيس بوش الابن بعد فيلم أوليفر ستون الرائع دبليو عام 2008
الفيلم يبدئ بلحظة تفجير البرجين، ليريك الشرارة التي انفجرت منها روح ديك تشيني، لينتقل بعدها برواية المتبرع بالقلب ومشهد لديك تشيني وهو يقود السيارة مخموراَ وبصورة لحريق غابة في نهاية الطريق، ثم مشهده وهو يحاول صيد السمك!

وينطلق معك الفيلم ليروي فيه المفاصل الرئيسية في حياة هذا السرطان السياسي، ليتوقف معك في ثلاث رمزيات رئيسية ظهرت في ثلاث مشاهد حددت الفيم كاملاً!
رمزية أكواب الشاي المصفوفة فوق بعضها ورمزية حريق الغابة والرمزية الأجل: محاولات الصيد السمك!

أما المشاهد الثلاث التي كانت هي المحددة للفيلم، فهي صورته وهو مخمور يقود السيارة، كناية عن القاع الذي خرج منه، وان بدى انه وصل لما يريد إلا أن داخله لا يزال في القاع، فما زال يقود سيارته مخموراً!


رمزية حريق الغابة كناية عن ذاته التي كالنار تلتهم كل شيء تمر به ولا تشبع! وتجد أي مبرر لتلهم المزيد من الحطب والزروع وما أمامها .

طوال الفيلم ومع كل حدث، يصطف كوب شاي مع صحنه فوق الأخر، كناية عن تصاعد ديك تشيني السرطاني، حتى هوى كل شيء بعد غزو العراق

وثانيهما هو وجود ضالته في جورج بوش الابن!
هذا الابن الذي ثار على تقاليد العائلة، ورأى في تحرير الكويت أن هنالك ثأراً لم يستوفيه أبوه مع الرئيس العراقي، فأراد أن يكتسب مجداَ أعلى من أبيه، لكنه لا يعرف السبيل للفراغ الذي يحويه شخصه العابث غير المبالي.فجاء ديك تشيني كالحوت الأزرق ابتعلت بوش الابن داخلها، فتقاسما الأدوار

وتستمر الأكواب في الارتصاص، حتى إن هوت، وجدنا باربا تستضيف ديك تشيني في برنامج ٦٠ ثانية في لقاء أشبه بالتحقيق، ليلتفت فيه السرطاني السياسي للكاميرا بخطاب مأزوم ليقول كما قال رينو دي شاتيو: "أنا لستُ نادماً"
وهنا تتجلى الرمزية التي تتكرر طوال الفيلم: صيد السمك!
فالرجل الضخم كدب بري يمشي في البحيرة يحاول صيد السمك كما الدب البري أيضاَ، هي نظرته لهذا العالم: مصلحة وتعداد! المصلحة تتمثل في الطعام كون السمك يؤكل،وتعداد كون العدد الصيد مجرد احصاء،فالحفاظ عليه او قتله سيان ما دام يحقق المصلحة!
ومع هذا ديك لم يصطاد سمكة واحدة طوال الفيلم، لم؟
ببساطة: لأن البحيرة فارغة!فالبحيرة العراقية فرغت من اسماكها لتلد القاعدة وداعش وعم الوباء كالطاعون في المنطقة.
وبقيت كل المسائل في تلك الحلقة من في مسلسل السياسة الأمريكية كأنها ثالول في جسدها، لم يوجد طبيب ماهر يتحسسه.

وينتهي الفيلم بلفتة ساخرة، كاللفتة التي كانت في منتصفه عندما ظهر كادر الفيلم قبل ترشح بوش الابن.
لفتة استمرار الجلسة النقاشية حول الحرب:انه فيلم ليبرالي، فلا تحاكمه بأفكارك اليسارية!بلى؛ أنه اليمين المتصاعد يا سادة!

أ.هـ رحمه الله


الأحد، 20 أكتوبر 2019

Joker 2019 - سمفونية الكمنجي الذي يعزف النشاز!

عندما أراد تشارلي تشابلن أن يرثي حياته في فيلم أضواء المسرح اختار شخصية مهرج من طفولته ليجسدها لتكون ستارا يخفي خلفه كل ذاك التاريخ الممتد.

يستفتح مظفر النواب قصيدة "عبدالله الإرهابي" بقوله:
الليل و عبدالله أقارب
العرق البارد والنار و حزن الأيام
وعبد الله أقارب
يفهم في اللج
وأفضل من يصنع مجدافين ولا يملك قارب
يدفع جفنيه يقاتل لولا الصف البطلي
يزيح الجدران
يصاهر نار الأيام
أحبك يا عبد الله لنفسك غاضب
وعلى نفسك غاضب

الفيلم هنا يتناول حكاية هاجس الاستسلام قبل الهزيمة بنصف ساعة، هي الفترة التي تجعلك هائماً!
هؤلاء المهزومون يظلون في حلقة مفرغة يدورون تائهين مهما حاولوا لا يصلون الى نتيجة لهذا هم نفوسهم دوما غضباء لانه مهما ولت وجهها ترى ما يسوؤها لهذا تغضب على نفسها وعلى حالها ومن هنا يتولد الارهاب والعنف، كالارتطام بالحائط تماما!

الفيلم هنا لا يكتفي بتقديم وجهة نظر أحادية أفقية تكاد تخرج من الصورة لأذنيك مباشرة، بل هو يريدك أن ترى في كل حدث لا يراه آرثر هو حدث غير مهم بالضرورة، كيف لا وآرثر هنا هو الزائدة الدودية التي يريد المجتمع لها ان تنفجر!
يبتدئ الفيلم بمشهد له وهو يحاول اضحاك نفسه معزول تماما الا من همس زملائه في كواليس المسرح الذي يعملون فيه بلوحة عند مدخل المكان تقول: لا تنس ان تبتسم!
يخرج ليحاول ايجاد نفسه التي يبدو انها تاهت منه، لتستمر السردية حتى تكتشف ان هنالك علاقة تربط بين هذا الرجل الذي في قاع المدينة مع اثرى اثريائها وهو توماس وين، وهي علاقة غير شرعية لوراثة عرش المدينة، في اشارة للتصور المتخيل للصراع المستقبلي بين الجوكر وبروس على انه صراع على عرش السيادة الملكية في احالة لما كان يحدث حول تيجان الملكيات الاوربية.
يأتي تاكيد هذا التشبية من خلال تصوير جوثام/نيويورك خارج الاستديوهات المعهودة في تأكيد على فكرة ان مدينة جوثام ما هي الا دستوبيا نيويورك التي حملت اسمها من مدينة يورك الانجليزية.

فتحدث الجريمة الأولى في أعماق قاع المدينة، أحد القطارات ليسمع بعدها آرثر بصدى فعلته يطفو على السطح ويؤكد استمرارية الطغيان لدى الطبقات العليا في المدينة مما يزيد في نمو جذوة النار التي تشتعل داخله.
تزداد الحالة تفاقما عندما يقرر ارثر البحث خلف الشيء الوحيد الذي يربطه بهذا العالم، ليجد ان كل الأشياء أما هي أوهام أو مفتعله، وكأن روحه ضائعة وتبحث لها عن مستقر، هذه النفس التي تريد لها فصام عن جسد كأنه فصد، يتضح هذا جليا في طريقة المشي اما منحي الظهر او منصب القامة، او في الاضاءه المحيطة به حين يمشي او حتى في سلالم درجات الحي هبوطا او صعودا وصولا الى اختيار الملبس في الظهور الاخير.

داخل هذا الوضع، وسط هذه المدينة العجيبة، تحدث الطامة عندما يرى آرثر قدوته في الكوميديا تهزأ به، ليتفجر بعدها التحول الذي انهى الارباط بكل الاشياء حوله، يتضح ذلك جليا في مشهد قتل امه الذي ما هو الا تجسيد لفك الارتباط بين كل القديم وكل الجديد ليعلن ميلاد الجديد من رحم موت القديم، الجوكر مقابل آرثر!
يأتي تأكيد هذا الحدث في مشهد زيارة رفقاء المهنة القديمة، الذي اقدم فيه المولود الجديد بالانتصاف للميت القديم والجلوس بجانبة بدم بارد، ليعاد فيها تعريف الكوميديا، إلى معناها الأول من جديد.

ثم يأتي الخطاب الأخير الذي قطع بثه اعلاميا في محاولة السلطة لبث سيطرتها على كل الاشياء، لكن الحدث الذي جرى انتشر انتشار النار في الهشيم معلنا ولادة احد اشهر ارهابيي المدينة بثأر شخصي - او بدونه - لا يهم مع وريث العرش الجديد في جوثام.

كل صلات كانت مع آرثر قطعت في مشهد مشاهدة لكوميديان القرن العشرين تشارلي تشابلن وهو يتزلج عاصبا عينيه على حافة السقوط، ثم افترقا ليتحول بعدها تشابلن الى بطل متهم بذنب لم يرتكبه، وصار نجما انار الكون، اما الثاني فسقط في القاع كأنه هو نجم تكالب وسقط داخل نفسه متحولا الى ثقب اسود سيبتلع المدينة لا محالة.

الفيلم ممتاز وتناول عدة امور بعدة سياقات ساعدت على ظهوره بالشكل الذي يجعل كل من ارتاده لا يخرج منه الا بشعور انه اخيرا حضر فيلما في صالة سينما يستحق المشاهدة، ولكن هذا لا ينفي وجود تحفظات لكن ليست بالضرورة تعني انه فيلم لا يستحق المشاهدة.
واحداها مثلا معضلة الربط النفسي بالعنف، لكنه عمل على احتمالية الوقوع وهنا كان عمل المخرج والكاتب، وصحيح ان التحول ليس نفسه التحول المنطقي الذي كان عند ترافيس بيكل، لكن هو استغل مجموع الحالات الي يعاني منها ليحدث انفجار يتحول منه آرثر .
بمعنى اخر الفيلم مقلق ومربك بالرغم من جودته، كأنه سمفونية متكاملة فيها عازف كمان يعزف نشاز طوال الوصلة.
ومما زاد في الركبة عدم تشخيص حالة واحدة يعاني منها ارثر وبالمقابل الظرف الذي وضعه فيه في داخل مجتمع مدينة جوثام التي هي بطريقة او باخرى دستوبيا نيويورك .

ومن يتحدث عن الواقعية في ان يوضع شخص هكذا في ظرف استثنائي هو امر يصعب حدوثه، ففي النهاية هي دراما وعمل فني يقدم بقالب يريد صانعه تقديم فكرة ورسالة معينة، الواقعية سبق ان قدمت من قبل نولان تحت بند وفكرة ( صراع الخير والشر) بانفصال عن الثلاثية، لكن الذي هنا هو ان تود فيليبس حاول يتعامل مع ارثر/جوكر بطريقة حيادية وبتجرد عن باتمان ومعالم عام باتمان، لكنه ما انفك عنه لشدة ارتباط الجوكر بباتمان فلولاه - اي باتمان - لم يظهر الجوكر اصلا، باتمان هو سبب ظهور هؤلاء الغرائبيين .

أحب أن أشير إلى مسألة أخرى تخص مارتن سكورسيزي، فقصة المخرج - تود - معه تواترت، لكني أزعم أن اثره المباشر على النص طفيف وليس جوهري - ان كان من اثر - النص والحالة كتبت وانتهي منها سلفا.
ان كان ثمة تأثير، ففي تاثير مدرسة سكورسيزي على عقل المخرج، الذي بدوره يقدره تقدير اشبه بالعبادة، وهذا السبب انه اخذ انثين من اهم افلامه والتي كان بدورها فيها البعد النفسي الواضح على الشخصية ووضعها في خلطة متناسقة .
اما في حالة نولان هو مثل ما قلت قصة البسها لباس عالم باتمان، ولانه البسها فالتزم بالعالم داخل اطار قصة الصراع بين الخير والشر، لكنه انزلها للواقع اما في حالة فيلمنا لا.
وأزعم أيضا لو - اذا نفعت - أن مارتي عمل عليه لأعاد كتابة العمل كاملاً، لكن المربك استلهام تود لفيلم سائق التاكسي .
وليس ذات فيلم سائق التاكسي نفسه .

من أعظم الأشياء في الفيلم كانت استخدام قيمة تشارلي تشابلن الايقونية في ذاته هو - حيث تشابه الظروف الحياتية بين النجم وبين شخصية آرثر - وكذلك في السخرية من الطبقية الغنية في مجتمع جوثام التي حضرت فيلما له يسخر فيه من ذات الطبقة متمثلة في هنري فورد، ألا وهو فيلم الأزمنة الحديثة.
وثانيهما في توظيف فكرة الفيلم الآخر لمارتن سكورسيزي وهو فيلم ملك الكوميديا الذي يقول ببطولته روبرت دي نيررو في اكثر ادواره تميزا في مسيرته السكورسيزية، حيث انه كوميديان مهووس بكوميديان اخر فيقوم باختطافه، لكن في حالة ارثر كانت المسألة أكثر صخبا، وليس أدل على ذلك من استخدام دينيرو وظهوره بهذا الدور بالذات بالفيلم ليؤكد هذا هالشيء وهذه الفكرة وايضا احتفاء بالايقونة السينمائية روبرت دينيرو بالمزاوجة مع الايقونية الانسانية تشارلي تشابلن لتكون كلها خلطة بايزاء آرثر المأزوم الذي يريد أن يصبح كوميديانا في يومٍ ما ....



تمت هذه المراجعة في صباح يوم الأحد بتاريخ 20 أكتوبر 2019م الموافق 21 صفر 1441هـ
من صالة منزلي الساعة الثالثة وسبع دقائف فجراً
وانا استمع لموسيقى مقدمة فيلم الثور الهائج



الأحد، 13 أكتوبر 2019

هي قالت لي! - The Best Offer (2013)


"أود منك أن تستمر" -هي قالتها لي!




رحلة طويلة في غيهب عجوز باع مشاعره في مزاد علني! كما لكل لوحة قصة،فلكل وحيد حكاية! والمفتاح عين حذقة!

فهو للحظة فقط تذكر ان جسده ليس سوى صالة معرض كبير لأجزاء روحه المتمزقة، التي مزها الزمن والعمر وقسوة الحياة والطموح والطمع أيضاً.

الساخر ليس هنا؛ ان هذا الشيخ وجد شاباً عابثاً لاهياً ليبوح له عن مكنونات صدره ولا يبالي بلا تحفظ، ولم اتحفظ؛ فهو ليس صديقي القديم الهرم الذي يعرفني حتى تتحول الروابط بيننا كروابط أخوة يصعب فكها، بللرفم من اني اعرف موهبته لكن كأخ كبير اترفع عن المديح حتى ابين اني لا اهتم له!
بالمقابل ذلك الشاب هو نقيضي، كشخص عرفته في خمارة، نبوح لبعضنا بوح العابر، وننطلق، لربما التقيينا في حانات اخرى...اماكن اخرى..مناسبات اخرى...وهموم مشتركة تجمعنا وان كانت فنية، لا يهم؛ المهم هو البوح المريح ثم بعدها انظر ما ستسفر عنه ايامي!

لكن الايام وهبته ما كان يهبه مشتري اللوحات الفنية في كل المعارض، فالمحصلة هي صدمة تودي بعقلك لمستقر لا تدري اين سيقضي بك!
فقط تذكر ان الدنيا كألوان اللوحات: تتدرج من وإلى الرمادي!


-هل تخرجين معي؟فهذا البيت موحش!
-قد تأخر الوقت؛فقد ألفت الوحدة هنا! ..... هل من الممكن أن تألف الوحدة دون شخص تبوح له؟


بالنهاية حتى باللوحات المزورة يبقى شيءأصيل فيها،وفي داخل الكذب بعض الصدق،كما ينطوي المزاح أحيانا على حقيقة! فأنتظر رفيقك التالي على الطاولة!



تم تحريرها بتاريخ ٢٠ يوليو ٢٠١٥

الأحد، 29 سبتمبر 2019

شرب الشاي وأنت تعاني رشحاً//كلاكيت مرة سادسة//

في اللحظة التي تشعر فيها بالحاجة الملحة للنوم، يأتيك هاجس الاستيقاظ!
وفجأة!
رغبة محمومة بالصمود، لكنه صمود سيزيف العابث!
هنا تريد ان تركن إلى وسادة، لتريك رأسك المثقلة عليها ..
لكن عبثا يجافيك النوم، الصديق اللدود
فتأسف إلى أي حال وصلتما إليه ..
والمشكل ان هذا السباق لا ينتهي هنا، بل يستمر لما بعد المشكلة ..
هنا فقط تبحث عن كأسك المقدسة لتنسيك مرارة اليوم ..
نرجو ان لا تجدها مكسرة!

الأحد، 14 يوليو 2019

كيف نُعلم الساحرة أن تكون سعيدة مجدداً؟ - (2013) Saving Mr. Banks



كيف نُعلم الساحرة أن تكون سعيدة مجدداً؟



Winds in the east / Mist coming in / Like something is brewing / About to begin / Can't put me finger / On what lies in store / But I feel what's to happen / All happened before.  


رياح في الشرق / ميست قادمة / وكأنه شيء قد تختمر / على وشك أن يبدأ / لا يمكني وضع أصبعي / في ما يكمن في المتجر / لكني أشعر أن ما يحدث / قد حدث قبلاً.


هذا الفيلم العميق المعد ببساطة مدقنة، جمع بين عمق وسوداوية الرواية البريطانية وببساطة أفلام والت ديزني المأخوذة عن هذه الروايات!

هل موت الكاتب في النص الأدبي حقيقة؟


كل شيء لا ينتهي تماماً، كل ما يكتب ويقال هو بعضٌ من كاتبه وقائله!


لم يخلّد شاعر لأنه كذب، ولم يعبر كاتب الأزمان لأن خياله خصب، هي مزيج بين المجاز وتأويله!

الفيلم يتناول الفترة التي قرر فيها والت ديزني انتاج رواية (ماري بوبينز) التي كانت من إبداع الكاتبة باميلا ليندون ترافرز، لكن باميلا لا تريد لهذا العمل أن يرى النور؛ فكما أن والت ديزني أحتفظ بغرفة تحمل أسم والده (إلياس ديزني) داخل عالم ديزني الساحر، الغرفة المليئة بالذكريات الموجعة، عن ذلك الطفل القديم الذي يوزع الصحف في تكساس، وإذا تأخر أو قصر في العمل، قام والده بضربه على ظهره بحزام بنطلونه كي لا يكررها، فإن باميلا كذلك ضمنت في روايتها ماري بوبينز شخصية (السيد بانكس) الذي كان يمثل كل ذكرياتها مع والدها، فهي عندما تقرأ في لا تقرأ عن بانكس بقدر ما هي تستحظر ذلك المخزون الكبير من الذكريات عن طفولة مشردة لطفلة أحبت أبيها حباً جماً، وكان أبوها يصنع المستحيل لأجلها.

ففي جنبات الفيلم، وخلال أقامتها اسبوعين في لوس أنجلوس، لإعداد السيناريو مع طاقم العمل، كان كل الرفض الطويل والمتكرر والمزعج لعدة أمور، منها ما يخص المنزل الأول .. البيت الثاني .. الشارع .. الحي .. العائلة .. يبدو مزعجاً لطاقم العمل، ويرون فيه خيلاء كاتبة مشهورة تتحكم بهم، وتبدر منها تصرفات هي غير مفهومة بالنسبة لهم، لكنه في الحقيقة مفهوم لباميلا! كيف تريدون أن تعبثوا في ذكرياتها! في حياتها التي عاشتها وأحبتها بحلوها ومرّها!

تفجر هذا الرفض مع تصميم شخصية السيد بانكس!


لا! أنه لا يشببه البتة! طبعاً لا يشببه؛ من سيشبه أباها الذي عاشت معه كل لحظاته حياته هو، وحياتها معه!


كل شيء تدمر، هذا الفيلم لم يرى النور!


أي نور؟


أنه نور تلك الذكرى القديمة، تلك الذكرى التي نحاول جميعاً ان نخفيها، أنها كنزنا الذي ندفنه في جزر نفوسنا، ما إن يطلع أحد عليه حتى نقيم عليه حد السرقة!

لكننا سنموت إذا لم نبح بكل مكنونات صدورنا، الصراخ لا يفيد، كما لم يفيد باميلا رمي فاكهة الكمثرى كلما وجدتها في سلة الفاكهة، هي تحبها وتتكرهها في آنٍ، فكان الهرب إلى الكتابة، كما كان هرب والت ديزني لإنتاج سينما الطفل!

الفيلم كان محملاً بالذكريات، بصورة شاعرية وإضاءة شعرية، تفجرت منذ دخول المشاهد للفيلم منذ لحظته الأولى، وتلك الذكريات تجيء وتغدو وتعود، ومن قال أن الذكريات إذا جائت لا تؤذي؟

موسيقى توماس نيومان أتت معبرة لكل لحظات الفيلم، تأسر شغاف قلبك، وتنقلك لعالم ذكرى باميلا القديم ذو التفاصيل الكثيرة وقصص أبيها التي لا تنتهي وصراعاته لأجل الحياة مع دنسها المسمى بالمال، وكأن مصائر الناس تقيم بقدر ما يملكون من المال!


هذا العالم البشع يحدد ماهيتم بمالك، وكأنك عبد لا تزال تباع وتشترى! كل محاولات الهروب من هذا الواقع البغيض لا تجدي نفعاً، كأس خمرة أو قلمٌ يكتب أو حتى الصراخ في البيداء، تجدك قد إنكفأت أمام هذا الموت واليأس الذات تقدمهما لك الحياة!


لكن؛ ما الذي يجعلنا نعيش؟ تلك الذكرى العابرة كسحابة صيف مع من نحب؛ لهذا لا نسمح لأحد أن يتعبث بها، فما بالك أن نغفر له!

كولين فاريل قدم أداءً استثناءياً، أداءً أقتلع قلبي وحاول سحب الدمع من عيني مراراً، أداءً مختلفاً جميلاً ذكياً لامس عناق السحاب، ذاك الأنسان المقهور البيسط، الذي يحب عائلته، ويستمتع بكل لحظاته معهم، لكنه فاقد الحيلة؛ أمام جشع هذه الدنيا والتي ترفض ان تقدم له ما يفرح قلب عائلته، هو إلى العدم، وهو مقر بذلك، لكنه لا يريد لعائلته ذلك المصير، لهذا كانت وصيته لإبنته: "كلما ابتعدتي عن المال، كلما زادت إنسانيتك أكثر، المال يفسد الإنسان".

لهذا نحن مفجوعون على الدوام من هذه الدنيا، نرحل منها بلا شيء، فقد بجسد بالي خاوٍ، إذا كبرنا ننسى ذكرياتنا فلا نتذكر منها إلا ومضة! وكذلك من نحب؛ نكذب عليهم أننا باقون معهم، ونحن نعلم يقيناً أن الموت سالبهم منّا!

ويبقى السؤال الذي سأله ترافر لإبنته باميلا: كيف نُعلم الساحرة أن تكون سعيدة مجدداً؟ 


اللحظة الأخيرة:

صمت المُفارق حديث!

والصدمة تجعلنا نحدثه ببوحٍ شديد من الصمت!

وقفة العزاء هي المؤثرة!


كتبت في ١٩ مايو/أيار ٢٠١٤ ميلادية

الاثنين، 3 يونيو 2019

قراءة في رؤية مايازاكي الأدبية

الإهداء:
 إليها، من أحبت غليونه القذر المُدمى، وزارت كوة الحان الصغيرة، لترى هذا العجوز الذي لا يكف عن الشخير، وفي الليل يأتي طيف هارب للصٍ عابث، يداعب ظفيرتيها، ليترك دبوس شعرٍ كُتِبَ عليه: شارلوك! 

 في خضم الحديث عن أفلام مايازاكي ذات الاقتباسات الأدبية، كان المحرك لهذه المقالة هو فيلم لوبان الثالث: قلعة كاليسترو، حيث أن لوبان الثالث تلك السلسلة القديمة التليدة، حضرت في بال المبدع العظيم لكي يصنع منها واحداَ من أجمل إبداعاته، فهذا الفيلم يمثل واحد من ثلاثة أعمال - الثاني هو شارلوك هولمر والثالث فتى المستقبل كونان أو عدنان ولينا - تتضح بها رؤيته الأدبية.
 ان هذه الاعمال الثلاثة ( عدنان ولينا، قلعة كاليسترو، وشارلوك هولمز ) تمثل قمة تجلي ميازاكي في التعاطي الادبي، السبب: ان شارلوك هولمز مثلاً كان مستقى تماماً من الرواية كأنه اختزال وتكثيف، العناوين هي ذات العناوين للقصص التي كتبها آرثر كونان دويل، نفس العلاقات التي تجمع الشخصيات بين بعضها ( تبلد شارلوك واحاسيسه، انبهار واطسون به، الكره المقيم لمورييارتي به، حتى غباوة ليسترد بقيت) اللهم أن العمل حضي بالمسحة الميازاكية المعتادة في الكوميديا والنرميز لطبائع الشخصيات بالحيوان، الثعلب للمحقق والذئب للص والكلب للشرطي والخراف للنساء ...الخ، وبالتالي يصح القول فيه انه اقتباس ادبي مباشر للعمل، اما عدنان ولينا أو فتى المستقبل كونان فهو الإقتباس الآتي بعد ارهاصات الحرب العالمية (حيث أن هذه الحرب ما زالت محفورة داخل الذاكرة الجمعية في الوجدان الياباني وكثير من الاعمال تتمحور حولها) كما انه حافظ على روح الرواية وجوهرها (رواية المد الهائل لآلكسندر كي) و لهذا هو يختلف عن "شارلوك هولمز" في كمية المادة المستقاه من العمل، وان كان هو لم يغير فيها كما قلت بل حافظ، و لكنه يشبه "هايدي" في ناحية تلبيس الفكرة، وهنا ندخل لعمل جديد كان له يد فيه مع رفيق دربه تاكاهاتا. اذ أن هايدي وعلى العكس من كونان فتى المستقبل (عدنان ولينا) كان هنالك التزام اكبر بروح العمل الأصلي لكنه البسها فكرة التعاطي البشري مع الطبيعة و المدنية، بمعنى أنه اعطى مع رفيقه قرائتهما الخاصة لهذا العمل، وهو غير متوفر في كونان فتى المستقبل أو عدنان ولينا، ولعل ابرز مثال واضح لهذه النقطة هو السعادة المستمرة لهايدي في الريف وفي بيت جدها، لكن تقتلها الغمة اذا عادت للمدينة وبين جبات جدران البيوت وإن كانت فارهة عامرة، حتى ان كلارا تتعافى ولو روحيا في الريف، حيث أن الإنسان دوما يحن إلى أصلة ومنبته. في حالة فتى المستقبل كونان (عدنان ولينا) الأمر أقل حدة من هذا، صحيح أن الفكرة ربطت بحال اليابان بعد الحرب وكيف أن الحروب استمرت في المحيط القريب منها خلال الحرب الباردة، وان البشر لا يتعلمون من اخطائهم - وهي ذات الفكرة موجودة في الرواية - لكن تفاعل الشخصيات هنا نابع من تفاعلهم داخل بيئة العمل نفسها دون دفع اكبر من ميازاكي تجاه اتجاهات أو أفكار محددة، وان كان ملتزما بشكل صارخ بفكرة الرواية الأم، ولهذا تشعر أن هنالك وطأة أقل لروح ورؤية المبدع.
 اما لوبان الثالث في قلعة كاليسترو فكان التحدي هو استبدال شخصية البطل في الرواية الأم ( أعني بذلك أرسين لوبان الأصلي الذي ابتدعه موريس لبلان) بشخوص اخرى (العصابة الربعية رفاق لوبان الحفيد) مع الحفاظ على كامل شخصية لوبان وان وزعت على رفاقة الأربعة، وربط كل هذا بعوالم محيطة سواء لآرسين لوبان نفسه أو موريس لبلان حتى اذ ان الاخير كان معاصررا لارثر كونان دويل مبدع شارلوك هولمز وإيان فلمنغ مبدع جيمس بود، وولعل هذا يتضح في تفصيللات الفيلم التي ركز عليها، مثل نوع السيارات المستخدمة، طريقة القتال بالاسلحة، وغيرها من الامثلة التي تنلثرت داخل هذا الفيلم، و هنا تظهر عظمة العمل والاعمال التي سبقت و من هنا ايضاً اشاد مخرجين كثر امثال كوبولا وسبيلبرغ ولوكاس به.
 اما عمله الأخير في مهب الريح فلا اعتبره اقتباس من قصة تاتسو هوري لأن مايازاكي هنا هو من يتحدث، القصة كانت مجرد ثوب البسه اياه لكي لا يقول انه فيلم سيرة ذاتية، لكن الفيلم كان شخصي جدا لدرجة معها تشعر أنه بقي فقط من أوجه التطابق أن يختفي صوت هيداكي أنو ويظهر صوت هاياو ميازاكي، هذا الهيام الكبير بالطائرات والإيطاليين وموضوعة الحرب وغيرها مما نجدة دورما رفيقا لميازاكي في رحلته الفنية لا تنفكس عنه، ولعل مثالا مشبها هنا يظهر يحاكي ذات فكرة الاقتنباس التي تخدم الموضوع ولا تلتزم بالعمل الأهلي وهو ما فعله كريستفر نولان مع سلسلة افلامه لباتمان فهو صراع الخير والشر بلباس باتمان واعداءه و ليس اقتباس للكوميك. 
 ومن هنا اقول ان هذا الجهل بهذه الامور عند المشاهد يُنقص من اجلاله للعمل الفني ، لانه لا يعرف ربع هذه الاشياء التي تضفي على الصورة معاني جليلة كجلال معاني الكلمة خلف قصيدة الشاعر. 

 وأخيراَ أرسل أجزل كلمات الشكر لتلك التي أحبت غليون العجوز المدمى في حانه الصغيرة، هائما في أيامه وذكرياته