الأحد، 31 يوليو 2022

مراسلات المنصور وبوشكين

 

الرسالة الأولى:

في احد المدن شمال العاصمة

يوم التورية ليلة عرفة لعام ١٤٤٣ للهجرة

الساعة الثامنة والربع

النص:

"لم أكن لعرف أن العمل أعجزك عن السفر لهذا العيد، أن تذهب إلى الأهل، لكن لعل مستهل ليلنا هذا أن أرسل لك أحد قصصي القصيرة كي تقرأها، قد يهمني أن أرى تفاعلك معها"






الرسالة الثانية:

العاصمة

يوم عرفة

الساعة الرابعة عصراً

النص:

"وعليكم مثلما ذكرتم وأكثر، بلى حسبي الله ونعم الوكيل، ولكن ما باليد حيله، نبلغهم مرادهم ثم يكون لنا معهم شأن آخر.

أما بخصوص قصتك، فاليوم الناس صيام، لعلي أقرأها في الليل، ثم سيكون لنا حديث"




الرسالة الثالثة:

ليلاً

العاصمة

بعد الإفطار

الوقت: الساعة السابعة والنصف

النص:

"هل أنت غاضب؟"




الرسالة الرابعة:

في احد المدن شمال العاصمة

الساعة العاشرة مساء ليلة العيد

النص:

"كيف عرفت؟ لم أبدي لك، ولكن صحيح أن شخوص الشخصية تصرخ، ولكن لا يعني هذا أنها أنعكاس لما في داخلي بالضرورة، ثم هب أنها كذلك، نحن نتكلم عن نص الأن وبناء وحدث، وانت جُل همك حالتي؟ هاتِ انطباعاتك وكفى!"




الرسالة الخامسة:

فجر ثاني أيام العيد وأول أيام التشريق

الساعة الحادية عشرة صباحا

مقر عمله

العاصمة

النص:

"كل عام أنت بخير، الآن أنا في عملي، لكن كل الذي استطيع قوله أن القصة طولها ممتاز، اختصرت فأوجدت وأجزت! لكنها تعبر عن كل أحاديثنا في مزرعة الشاي خاصتنا، مع ثلاثي أضواء المدينة: الحاج، والمترجم، والدكتور، وهذا منبع سؤالي عندما قلت: هل أنت غاضب! لعلي كوني اعرف كاتبها دفعني أن أنظر لها من هذا المنطلق، وبالتالي اتفاعل معها بعذه الطريقة، انه حديث صديق بطريقة جمالية! ربما لو كتبتها بالنيابة لكانت أكثر تورية!"




الرسالة السادسة:

في احد المدن شمال العاصمة

نفس اليوم

عند المغيب

النص:

"وأنتم بخير، مؤكد أنه عيد بائس في العمل! قرأت كلامك، وعلمت مقصدك، ولعل وعيي بأدواتي أراد مني توضيف القصة هكذا: مباشرة بدون تعقيد، تصل للكل، وقد يتفاعل معها كما قلت: من يعرف الكاتب! لكن لم أقصد البتة أن تكون كأنها مقالة، هي قصة تختزل فكرة وتوضعها، كما قلت، وكما كنت قد قلت لك.

هل ستكون في العاصمة عندما أعود؟

كُن بخير"




الرسالة السابعة:

ثالث أيام التشريق

ظهراً

مقر عمله

العاصمة

النص:

"سأكون، فكُن!"






تمت

السبت، 30 يوليو 2022

في معنى أن ترتجل،،

 

في معنى أن ترتجل،

هو مثل عزف منفرد لموسيقي متجول،

كخروج عابر

موعد غير مسبق مع صديق

افتتاح حديث

كقولهم: جب لنا طاري يا فلان!

كشجر خريف يبدل اوراقه مع دخول فصل جديد

كهذه التدوينة مرتجلة!

هو شيء لم تخطط له سلفا، تخوض غمارة حتى تصل لنتيجة اخيرة، لتصبح لحظة لا تنسى!

كطلعة بر،

سفرة فجائية،

او حتى طلعة عشاء،

او مشوار مع اخوياك!

كوقوف ممثل على خشبة المسرح، يخدم اللحظة الدرامية دون وجود نص مسبق! أن يرمي من نفسه كل تل الأثقال والهموم، ويبقى هو يعيش اللحظة!

تشعر أن في داخلك ثلاثة اشخاص يتنازعون: روحك وعقلك وضميرك!

الارتجال هو قرصان متجول يرفض حكم الامبراطوريات البحرية، وله قوانينه الخاصة، فيختط لحياته طريقا مرتجلاً، متدفق الكلمات الآن

فدعوا الكلمات تتدفق، والأسئلة تفتح السواليف والهروج والسباحين  ولا تقولون طلعنا علشان نسوي او نسولف عن شيء محدد، مهما كنت حلزون متقوقع، حاول تطلع منها، مثل المحار، يمكن تلقى اللؤلؤة، وممكن أحد يهديك اياها.


عطونا سالفة يا ناس!

خلونا نسولف!

نراكم على خير!

وسنة سعيدة عالجميع!



كتبت في غُرة المحرم لعام ١٤٤٤ للهجرة

الثلاثين من تموز / يوليو ٢٠٢٢ ميلادية

صالة بيتي

الساعة الساعة من مساء السبت

الجمعة، 29 يوليو 2022

حلمٌ مدفون في كفن! - قصة قصيرة -

كانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا، وصوت الباب يأن ليس من فرط حزن، لكنه الحنين، ففُتِحَ فإذا هي أمامه، ممتلئة النعمة، بيديها قفازين قطنيين يحميان نلك اليدين البيضاوين من الحرارة، وتحمل فوق كفها الأيمن صينيه "مصقعه" وتريد وضعها على طاولة الطعام، ليست بالطويلة ولا القصيرة، لكن شعرها العنابي هو الطويل كأنه الشلال، يخيل لي أن طولها ١٦٥ او حول هذا الرقم، ممتلئة النعمة تحمل النعمة، لم ترتدي الا "شلحه" فتبين حبة خال زانت مفرق صدرها ويمين عنقها، مركوزة النحر، وكأن جسدها انحناء السيف اذا هوى به فارسه، لكن فارسها "فهد" هو الذي دخل من الباب، راعها أنين الباب

فالتفتت يمينا مع تمايل شعرها الطويل يسارا وغرتها فوق عينيها العسليتين، وكان كأنه يكاد يهوي ذلك الفارس، فأسقطت صينية الطعام الزجاجية، وزلقت معها في اتجاه الباب، فانكشف جزء من ساقها الذي حماه الباري من ان تلونه الدماء الحمراء القانية، لكن ما ان رآها فهد حتى ركض باتجاهها ظنا منه ان هنالك ما أصابها، فهد الذي يعمل مهندسا في الانشاءات، بقبعته الصفراء كأنها شمس تسير على الأرض، وبجوزي احذية عمالية حتى منتصف الساق بنية، اشول او اعسر لا يهم، فأنه يجد من شمس مدينته من الهم اكثر مما يجد من مديره في العمل بطول يقارب ١٨٠ وشارب كلاسيكي اسود وعينين عسليه، كثر يظنونه باكستاني الجنسية او ما شابه وهو يهز رأسه لكل توقعات الشعب ولا يهتم كثيرا، فتزداد حيرة من حوله دون اهله، فكل همه يوميا ان يعود لكي يصيب الراحة فلا يريد هما إضافيا فوق حفلة اليوم الروتينية.

بهي النظر فهد عندما تلقفها واطمئن أن ما بها من بأس، فسألت شقيق قلبها عن أنين الباب

قال لها: انا تعب! ويومي مضنٍ! هل من راحة؟

ردت: يداي لك وسادة!

فابتسم وقال: وشاهيك الذي بالأبريق .. هُناك .. مر ام حلو؟

ردت: سكر زيادة!

فقبلت رأسه وهو ينام على وسادته منها، وكأني بذلك المغني العتيق اذ يقول عنهما:

"وعيونك غيرهن ما اهتوينا، جمعنا الشوق يا اسمر بغيابك"

وان لم يكن اسمرا لكنها استعاره

ولأنها استعارة، فقد تناولا بعد الغداء فاكهة ليست كأي فاكهة، محرمة على الناس الا هم، واستخلصا عصيرها ولم يرتويا، لو قدر لمصاص دماء ان يشربها - تلك الفاكهة - دما لظل عطشا!

 

لكنه انسل من صحن الفاكهة، وذهب لمكتبه، وفتح درجه، واستخرج غليونه وقلمه وورقه، وأنشأ يقول:

"يروعني هذا السكون الذي يجمعنا في هذه المكان، ولكن شيء في داخلي يصرخ، وكأن الميتين من السلف الصالح بداخلي يفتحون كلماتهم كما يفتح شهود العيان أعينهم، لابد أن أذهب خلف قبر شارل هوبر لعلي أعرف الشيء الذي مات معه، ترك لك نقودا تحت هذه الورقة، وشوقا كثأر لا يموت"

خرج من مكتبه الى ممر البيت المؤدي للباب الرئيس، كأنه الطيف، والتفت وهو يبتسم، ثم اغلق الباب، ونزل درجات البناء العتيق ولم يقف حتى عند بوابة المطار، كان يحمل تذكرة الى مدينة جدة، حيث أن شارل هوبر قد دُفِنَ هُناك.

 

عند الصباح، مدت يدها لجانبه الدافئ في سريره، فوجدته باردا

فالتفتت له وهي تزيح شعرها الكثيف عن وجهها لكي تتأكد انه لا يزال على الاقل في الغرفة، لكنه لم يعد موجوداً.

خرجت والخوف بعينيها، تتأمل ارجاء المكان، وهي تغلق "روب ساتان" بحواف "دانتيل" وتحاول ان تبحث عنه داخل البيت وتعض بجفنيها على دمعتها ان لا تنزل.

لكنها قد وجدت منه ظرفا ممهوراً

ممهوراً بالتالي:

"لابد لي من الذهاب يا نسرين"

فتحتها وقرأتها ثم سرحت دمعتها وتمسحها زهي تضحك، تمسحها وبي يدها الرسالة، تقول: "ان اخر اولوياته هي العمل، العمل شيء يوفر له دخل يستخدمه لتحقيق بقية اولوياته!

 

ثم استرجعت قول شاعرة معاصرة:

كبير عليك الهوى

وأكبر منك القصيدة

فجل النساء شبيهات بعض

وواحدة بين عصر وعصر تجيء

كلؤلؤة في الكنوز

فريدة!

"قد أشرقت الشمس يا عزيزتي، وعليك أن تعودي لغرفتك وابتسمي، هو يريد أن يتأكد انه ليس سليل قاتل، وان كان مستشرقا لصا" - قالته لها جدتها الشركسية على الهاتف وهي تحدثها من عمّان تحاول طمئنتها كي لا تقلق كثيرا حيال ما حدث، فقد ربتها بعد ممات امها بعد ان ضعتها، فهي لم تراها ابدا

فهد ونسرين ولجا إلى هذه الدنيا الفقد شيء أساسي في حياتيهما، فهما هي أن أمها قد ماتت بعد او ولدت بها، ففهد ايضا قد رباه عمه الذي تزوج بأمه، بعد أن توفي والده وهي حُبلى به، فصار الفقد في حياتهما كأنه شاهد قبر الحرية!

حرية دخولهما إلى هذه الحياة.

فنانا نايا بشعرها الأبيض التي تربطه دوما بشال أحمر كأنه اشراقه الشمس سماء صافيه، والعم مطلق يكونان هما ملجآ فهد ونسرين في الملمات، يحترقان لهما كما لو كانا أعوادٍ ندٍ تغير لهما رائحة أي يومٍ مهما كانت تعاسته.

أغلقت نسرين سماعة الهاتف ودخلت لتستحم، لعل المياه الدافئة اخفف مما تجد من هذا الأمر، فهي تعرف أن فهد لن يرد على أي أتصال أو مكالمة، ولو حاولت الاتصال بعمه فسيكون رده بكل برود وحدة -كالعادة- "دقي عليه لين يرد، او اصبري، تبين شيء ثاني؟ مع السلامة!"

لهذا كان جُل خياراتها الان، الهدوء!

خرجت من الحمام يسبقها بخار الماء الساخن، وخرجت من خلاله تدعك رأسها الصغيرة المثقلة بالهموم والماء، بمنشفة صفراء وقد لفت جسدها بروب رصاصي كأنه ورق سلوفان، وجلست على طرف السرير تفكر بمن تتصل، فأكثر طقس ينسيها ويدخلها في حالة تشبه السكر، هو الطبخ والأكل، فتذكرت شبيهتها في هذا، هُدى!

هُدى كانت طفلة عندما اندلعت حرب الخليج، ما بين الرابعة والسادسة تقريبا كان سنها، هي لا تتذكر جيدا، لكن في ذات الوقت المقارب لسنها مع ظهور النور استحال شعرها الاسود من الليل،للون رمادي يقطع حدته حمرة وجنتيها فتصبح كأنها جمرة فعلاً، حاملة معها عنزة صغيرة وتمص ابهامها وهي تنظر للدبابات

حتى اخاها الذي يشبه سنان، بضرسي قندس، كان يقف بجانبها، لكنه يضحك، وينظر للعنزة التي تحملها هُدى، ويجاريها في مص ابهام اصبعه، ويحدد الأعلام، ويقول لها مع مرور كل دبابة: "ما عليتس، بيجي ابوي الحين"

وفعلا لم تمضي دقائق حتى أنت "الحجية" بعبايه رأس ومعها سلة طعام للأولاد

وجاء الجحي على صيحة اخيها "ابوي كنه حرامي" حيث انه سرق كابريس ٨٠ لكي يهربوا بها، وهو يحثهم على الركوب، ويقول لهدى: "العنز قبلنا، بس اركبي هالحين"

وقد كان!

ركبوا خمس كائنات باتجاه اقرب منفذ، اخر شيء تتذكره هُدى كان صوت الراديو الخافت يغني:

"ليلة ويا عساك تعود، عسى يصبر الموعود"

رحلة استغرقت يوم وليلة، فعند المنفذ استوقفهم جندي عند المنفذ، يسأل عن هوايتهم وبيده اليسرى دفتر صغير، سأل الأب: وين تريد عيني؟

- ديرتي!

- بلي،كلنا نريد ديارنا - والتفت للدفتر الصغير، كان ذو لونٍ أخضر

- أنت من وين؟

- واسط، قضاء الصويرة، ناحية العزيزية!

ثم ساد صمت، وكلا ينظر للآخر

قال الجندي: تدخن حجي؟ - ومن له سيكاره واخذها منه

ثم قال الجندي: معاك شخاطه؟

- أنت وين وانا وين، الي يسمعك يقول طالعين من سوبر ماركت، وعلى هالعنز الي معنا، طايرة بوهتها مثلنا!

- هههههه اتشاقا وياك شبيك! هاك! واشعل له السيكارة، وبدآ بالتدخين،

قال الجندي: شوف ابن عمي هذا ضابطنا ما راح يتركك تعبر، لكن آني أريد أساعدك اذا تساعدني!

- شلون؟

- أخويا هنانا برفحاء، اريدك تنطيه المذكرات هاي الي بإيديا -واشار للدفتر الأخضر- إن شاء الله من تخلص الأزمة، أكون مرتاح أنه هوا من يم اسرتي!

- بس؟

- بس! لكن باقي اقفل اخر رسالة بيها!

- طيب عندك ماء؟

- بس ماي! أكو ماي، وجاي، وكل شيء، بس انتو معكم شيء مو محلي من شغل الأمريجان الجلاب!

- معانا سلة بها معلبات، بس ليش تبيها؟

- اعطيها للضابط، فما ينتبه الكم وانتم طالعين!

- خذها!

واخذها واختفى في نهاية سراب الطريق، ثم عاد بعد ساعة تقريبا، اشعلا سيكارة ثانية وداعية!

عندما انتهيا، اختلسوا سرا، لا يشبههم أحد، في غز نور الظهيرة الحاقدة، حاملة معها قائمة من نوايا الانتقام، وعلى استقامة طريق واحدة، وبحساسية القاطعة الطريق المترقب كوشق برّي، يريد الانقضاض على فريسته، وهم لهم فريستهم الخاصة!

محتفظين بدفتر الجندي سعدون عبدالله خدام، في محاولة العثور على صاحبه الجديد، بعد أن يعثرون على نفوسهم!

 

بعد أن احسوا بالأمان، واستعانوا برجال شرطة لمعرفة الطريق، واكملوا مسيرتهم الى العاصمة!

 

- والدفتر يبه؟ - قال ابنه

- بطريقنا بنوديه!

 

ومن خلال الاسئلة استدلوا على اخ الرجل، فائق!

وكأني أهديته وردة، وشكر لي حمايتها طول الطريق من الإعصار المقدر، وقبض عليها كما يقبض المؤمن على دينه، لا يضحي بها ولو كانت جمرة!

واتموا طريقهم حتى سكنوا شرق العاصمة!

 

العاصمة: ذات غمام رمادي، وحكاية حب شعبية!

وكان الجار الذي لديه ٩ ابناء ذكور خمس بنات، احدهم يدعى فهد!

- وبكذا صرنا جيران لأل فهد، حنا حمولة وحدة، بس القرابة بيننا بعيدة، علشان كذا ابوي - الله يرحمه - سكن شرق

- اول مرة بتحكيلي هاي القصة!

- يمكن الي طراها علي، روحه فهد عنتس!

- طيب ليش هاض الموضوع بيفكر فيه كثير!

- مدري الصدق،لكن يبيلي اسأل أحد شيبانا، لاحقين، انا متأكده مصيره يرجع!

- على أولتك! طيب ما تبين نتسلى بشيه أكله!

- بس بنبلش بالمواعين!

- يا ستي!

 

ودخلن المطبخ في محاولة هروب أخرى يفضلنها: الطبخ والأكل!

هذه العادة التقليدية التي وان كان لها آثار جانبية لكن ايضا تحتوي متعة لفظية صعب ان توصف ببضع كلمات!

دخلن للمطبخ وكلا تولى مهمة، من المبكيات والمضحكات، قطع البصل ناعما مع حزمة بقدونس وكذلك طماطم،والاخرى صدور الدجاج مع جبن كي يحُشى، كلها خيارات سهلة لانه مجرد الهاء عما يشغل البال.

شرائح من جبن الموتزاريلا كانت،كي تذوب مع حُمرة تكسي سطها تحت لهيب الفرن،وتم خياطه القطعة بخيط طعام

الدخول في هذه الحالة هو أحد اشكال تفريغ المشاعر السلبية عندها، اذ لم يخطر على بالها ان يحدث له مكروه، فهو كثير الغياب، صاحب خروج مفاجئ، كلما خطر في باله شيء انسل وخرج ثم عاد دونما اي اخطار، فاعتادت نسرين على هذا الطبع لديه، كأنه جني المصباح!

فهذا من روتين الحياة الطبيعي بينهما، الا ان هذا الاختفاء مختلف كأنه اختفاء قصري، لا تجد له وصف غير ضيقة تكتنف صدرها داخليا فلا تجد لهذه المشاعر اي مكان لها لان تبوح بها.

لهذا هُدى دوما حاضرة وكأنها في حظورها هذا تذكرها انهم مربوطون بالهروب من ازمة الى اخرة

فلا تبتئسان.

في اليوم التالي

في الضحى

وهي تضع العنبر على شعرها الطويل

بيديها الخميلتين

من غير صوت في البيت

الا صوت غسالة المالبس تتحرك، وتتقلب في داخلها الملابس، ومع كل انقلاب تتقلب الأفكار في رأسها، وبيديها تخلط العنبر بالمسك، وتزداد حدة نغمة الافكار، كأنها تريد التظاهر داخل رأسها

إذ يرن جرس الباب

هه!

جرس الباب .. يدق

وجرس قلبها .. يدق

ويرق

وشعرت بعطش

التفتت يسارا تريد التأكد من الصوت، ووضعت "توله" العنبر على التسريحة

ومع هدوء صوت الغسالة، رن الجرس!

"باب داري هذا؟"

- نسرين افتحي الباب!

"يشبه صوته"

فركضت كما تركض قطة لصاحبها، وشعرها كأنه طرحة عروس خلفها

- اهلين عمي، دقيقة اتستر!

- هلابك، شلونكم؟ طيبون!

- نشكر الله، كلفت على خاطرك!

- ابد قلت خل نحلي، واعلمتس علوم الخبل الي عندتس!

- *ضحكت*

تبسم وقال: زيني لنا قهوة!

وجلس في الصالة المقابلة للمطبخ، وفتح التلفاز على اقرب قناة تبث اغاني، واخرج هاتفه الجوال بنظر للرسائل حتى تجهز القهوة

ركوة حمراء كانت في الدولاب اخرجتها، ولم تجد ملعقة كبيرة، فاخذت ملعقة صغيرة، وغرفت من علبة القهوة التركية اربع مرات، وبدون اي اضافه الا ماء، ووضعتها على العين وهي تتمتم بهذه:

لما بدا لي أن قلبكَ ملني

وعلمت ان هناك ما لا اعلم

أقسمت ان لا اورد اسمك في فمي

لكنني قد كنت باسمك أُقسم!

فارت القهوة وبضع قطرات منها انسكبت واخرجت فنجانين وذهبت عند العم مطلق، وصبتها!

- ما بها وجه!

- لاني فوحتها مرتين، وبعد المرة الأولى شلت الي فار عالسطح!

- الله يهديتس بس!

ويوم خلص شرب فنجانه والباقي داخل الركوة، قلب الفنجان!

- انت تقرأ فناجين؟!

- لا، بس هذه عادة قبيحة اكتسبتها من ايام حرب رمضان في سوريا، مع كثر قعدتنا مع الشوام، صرت اسويها، ومع الوقت صارت تبدي اهتمام لما تجلس مع احد علشان تفتح سالفة! لانها تصير ملفتة وغريبة!

- ونحن عندنا سالفتا الخاصة!

- بالضبط! المهم فهد كلمني قال انه بجدة، اكيد عندك خبر!

- ايه، يقول يبي يبحث عن قبر شخص، وسألت جدتي قالت انه له علاقه بجد لكم كان مع المقتول، بس ما اعطتني التفاصيل

- ايه، وهذه سالفة تطول، لكنه طيب، وبخير، وهو في سكن الجامعة، عند زميل له، ويوم قفل السماعة، ارسل لي عالواتس هذه الرسالة:

"الحقيقة يا عمي اني نسيت الكلام، انا لا انكر فضلك، لكن هذا شيء اكبر مني، لكن لانك انت مربيي الحقيقي، فلهذا اذوب الان امامك من البوح، فانت كعسكري صارم كنت طائع مطيع قزم أمامك، كأنك دكتاتور سوفييتي، لك ابتسامة مميزة لا تُرى الا كما يُرى هلال رمضان والعيد، بتحري ودقة،

اعلم ان هذه الرسالة ستبدو لك كأنها انطباعات لطيفة، لكن قد قاسٍ بشكل مختلف، وكأني جدني في ثكنة، لكني أعلم يقينا أنك تريد الخير كل الخير لابن اخيك، فتريده افضل من ابنائك من صلبك، ولهذا كان علي أن اتحمل كل شيء، لأنك والدي العزيز، لكن هنالك حقيقة كلكم تخفونها، ولهذا كنت أخاف أن أسالك

لكني رحلت يجب أن أجد هذا السر المدفون مع شارل هوبر، اريد أن أكون لونغ جون سيلفر ابذي وجد كنز القبطان جيمس فلينت.." ثم توقف مطلق عن القراءة لانه شاف نسرين تمسك راسها

- مش راح يرجع! مش راح يرجع!

- ليش فهمتي شيء؟ انا ما فهمت ولا كلمة من الي قاله!

- ولا راح نفهم، لانها مثل رسالة كافكا لابوه! الرسالة اللغز المباشرة!

- الله يدبر الصالح!

- هذا الي مجنني ومجننه! البرود الي عندك، ما كأنه يعنيلك شيء!

- فهد عزم امره على شيء، واعرفه لا عزم على شيء ما يثنيه شيء! خليه نشوف وش يطلع منه!

- كيف يعني؟

- هو يحاول يرجع شخص ذاب في بحيرة الذاكرة!

- هسا انت عم تعمل مثلو! كافا موازي!

- هههه لا لكن صدق، هو مب راضس يقتنع انه حتى لو كان سليل الدليل الذي قتل شارل هوبر، هذا شيء وانتهى، ولازم تمضي حياته! لكنه هو يبي يعيد الأموات لأنهم أحياء عنده!

- والحل؟

- لا حل للمرض المزمن!

صارت تضرب راسها وتولول كأن لها فقيد، ومطلق جالس يسارها طأنه حانوتي يدعو لميت! وكانت تستنكر بروده، لكن يبدو أن مطلق معتاد على هذا المشهد الأسري، وكأن هذا تكرار لمشاهد كثيرة غرقت داخل حياته، فاصبح مثل الطبيب، لا شيء يجعله هلع!

كل الأشياء وكل الزوايا وكل الأمكنة، واحدة!

والزمن يزحف!

عندما هدأ الجو، قام مطلق من عندها وهو يقول: "إن جتن أخبار جديدة بعطيتس خبر" وهي تودعه قال لها بصوت هادئ وبنبرة ثابته وهو ينظؤ لعينيها مباشرة:

"تعلمني أن لا تتوقفي عن المشي عندما تفقدين شخصاً تُحبينه!"

وخرج وهو الذي أغلق الباب لأنها تسمرت مكانها!

تسمرت، وبرد جسمها، ثم شعرت بدوار بسيط وجلست على الأرض، قبل أن تذهب لأقرب أريكه!

 

كان شكل الصالة البيت مستطيل ناقص ضلع باتجاه الشمال، لانه يطل على المطبخ، فجلست ثانية ساقها اليسرى، وظهرها باتجاه بمطبخ، وامالت جسدها للجهة اليسرى،

وامالت رأسها على احد الوسادات، وهي تتأمل الشباك المتسخ، تكتم ابتسامه فوقها عين مختنقة، وتعد قطرات الماء المتساقطة من مجرى التكييف خلف النافذة، واضعة يدها اليسرى على فكها، ابهامها على وجنتها، ونهاية سبابتها بين اسنانها البيضاء، وبقية اصابعها على ذقنها، ودخلت في شرود عميق كأنه سبات!

سكابا يا دموع العين سكابا

هجرهم حمل لقلبي عذابا

سنة وسنتين بستنى الحبايب

لحد تقطعوا اوتار الربابه

ويا راعي بأرض المرج عزبتنا

عالله تعود وتتجمع عشيرتنا

سكابا يا دموع العين سكابا

 

ظلت نسرين تردد هذه الاغنية القديمة حتى غفت عينيها وفهي مكأنها كأنها تمثال روماني!

"خلال الأيام الثلاثة التي أمضيتها، اضطررت إلى الدخول إلى تسعة عشر منزلاً، حيث قدمت لي القهوة وطبق كبير من الشمام أو البطيخ المقطع إلى مكعبات، وأقول (اضطررت) إذ إن أحدهم ما إن يلمحني سائراً حتى يأخذ بمطيتي من الرسن ويقودني إلى بيته، متجاهلاً ملاحظاتي!

ليقدم لي وليمة تتكون من طبق هائل من الأرز ولحم الغنم في بستانه، فمدينة عنيزة تطل عليك بمظهر عظيم وأنت قادم من الشمال مع شروق الشمس مدينة مستقلة، هي شبه جمهورية برئيس منتخب"

كان فهد يقرأ كلمات تشارلز هوبر في مكتبة جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، يحاول أن يجد اي طرف خيط يقود لسلفه!

كان يبحث في يوميات ومذكرات الرجل، كان منهما، لو تراه من بعيد، كأنه خُلد يحفر تحت الأرض لكي يخرج من جهة اخرى وقد اتم عمله، كما لو كان فأرة، تدخل أوكارها، تلعب بسجاد ممرات المنزل، تأكل كتب الأشعار، تتنزه بين الألعاب والزوايا والأماكن الضيقة، لتنام في قفل باب لتكمل جوقة المطارة!

لا يخرجه من هذه الحالة الا شيئين: آذان أو قرقعة جوع، لكن هذه المرة، بالرغم من عدم حلق ذقته التي طالت بشكل مهلهل غير متناسق، وقلمٌ مدببُ علقه فوق اذنه اليمنى وبيده اليسرى دفتر مذكرات صغير كي يدون فيه ملحوظات، لكنه استمع لصوت مختلف، هادئ ومخنوق كالقطة، وكأنه لا يجيد العربية،

فرفع رأسه كما لو كأن وشقاً يريد أن يلقي نظرة فاحصة على المكان، وحوله ركام الكتب التي تخندق خلفها، ثم وقف وهي تقول هذه الشقراء:

"فين ممكن القى كتب استشراق؟"

قلبه طار، مع كل نبضة، ليس عشقاً إنما شوقاً ليروي فضوله العطش! من هذه التي تريد البحث في قصص هؤلاء كما لو كان نبشاً للقبور!

"إنها متل سوق، ونحن متل باعة، عرفت علي كيف! أقصد المكتبة! احنا من شتوتغارت، جنوب ألمانيا، بس أنا جيت مشان أمشي نفس خط جدي، هو مر من هون لين جدة، فقلت لحالي ممكن الاقي نسخة ترجمة منيح ليوميات رحلة إلى داخل العربية لجدي يوليوس أويتنج، هوا اتولع بالمكان من ايام ما كان أمين مكتبة...

طاحت عينو على جزء من توثيق رحلة كارستن نيبور للبعثة الدنماركية لهون، وبس تولع بالمكان، وبتقاليده،تعرف أنه بنقدم القهوة على الطريقة البدوية مو بس عند قبره، حتى بالبيت عندنا! فهاي اغرب مصادفة انه انا بقابل حضرتك هون،وفي مكتبة، ونكون احفاد الرجلين اللذين كانا قريبان من تشارلز هوبر!"

بولا أويتنج، عينين يميز لونهما، لكن أكثر ما ميزه هو صوتها المخنوق كقطة، وبالرغم من لون شعرها الاشقر الظاهر، الا نه قد يبدو باهتا ان اقتربت منه، لا تدري اهو يميل ان يكون ذهبيا او يتخلله ترجات من خفة للونه كأن البصيلات تكاسلت من اعطاءه هذه الصبغة، زينه وشاح اسود تلف به رأسها كأنها

ليلى ذات الرداء الأحمر، لكن الحمرة هنا هي التي اكتنفت بشرتها في هذا الجو الساخن الذي قد تخففه رطوبة المدينة احيانا، عندما تجلس لا تميز طولها لكن عندما تقف لا تدري اهو مجاوز للثمانين ام انه بقي عند السبعين، لكنه طول مميز بالنسبة لمثيلاتها من النساء، لا تحب وضع طلاء لاظافرها

الطويلة نسبيا، ويبدو انها تريد الابقاء عليها لتخافظ على مسحة استقراطية عند الحديث، حتى التجلي في الطريق، مع ان الحديث معها لا يوحي بذلك، فبالرغم من عربيتها المكسرة، وكرهها للفرنسيين، الا انها تحمل سجائر فرنسية بنية اللون، ملفوفة بورق سيجار كوبي عتيق، بالرغم انها غير مدخنة، لكن

على حد تعبيرها تقول: "هيدا بيسعاد كتير في الاوساط الثقافية" وكأنه تذكرة عبور او جواز سفر، لعلك تتسائل كيف هي عبرت له بكل اريحية عن هذه التاقضات، لانها سألته عن شكله الذي يشبه اودونيس الشاعر، فكان رد فه: "أعوذ بالله! لا منيب ادانيه، لكن ربعنا يحبون التمظهرات هذه....

شعر اشعث، وقهوة تركية، وفيروز مغنية، وشعر حر، وسيجارلو صغير، وموسيقى كلاسيكية لشوبان"

وكأن كليهما وجدو قرابة ادبية اخرى جمعتهما،مع كره الفرنسيين،فإن اخر حديث جمعهما قرب ان يفترقا هو: "لا اظن احد في هذا الكوكب يحب فرنسا، ولا حتى الفرنسيين ايضا!"

وامتنعنا عن الضحك لأنهما في مكتبة!

قررا أن يخرج من المكتبة،وكانت المرة الأولى التي يفعلها فهد منذ أن وطئت قدماه ارضها، أما بولا، فازدادت احمرارا بسبب سخونة داخلية اعترتها، لكنها ليست سخونة مرض اعتيادي،هز رأسه بالاعتذار من انه يريد ان يصيب بعضا من الراحة في منزله، مع ان من عادته ان لا يخرج الا حين تنتهي ساعات العمل

أما هي، فذهبت الى الرصيف البحري، وهي تنظر للبحر، وتلعب بخصلة غرتها وهي تردد:

"يحبني، لا يحبني... يحبني، لا يحبني... " رددتها فوق اربع مرات حتى وقعت على: "يحبني!"

فتبسمت ابتسامة حارة وهي تقول في نفسها: "هل هذا حقيقي؟"

وبقيت باولا تنظر للبحر،وبتحث عن اي محل يبيع مثلجات لتسجية الوقت

ومنذ ذلك اليوم اصبحا متلازمين، كقصة، وحكاية ناس، وحضور في المكتبة، وخروج مبكر لفهد، ووقوف باولا عند الواجهة البحرية!

كانا منظرا بديعا اضاف معنى لجمود هذه المدينة الروتيني، وهروب الطلاب من مكتبة الجامعة العامة!

 

" لقد انتهى درس اللهو يا فاوست! " صوت مميز سمعه فهد في المكتبة!

"موفيستو؟" همس فهد!

- "طبعا لا! لكن تستطيع ان تعتبري الصوت الذي انقذ فاوست! فهل ستدق بابي وتسير إلّيَ، وتأخذ بيدي!"

هز فهد رأسه بشكل سريع، فاستعاد وعيه بالمكان، المكتبة هي هي، وهو غارق في وسطها، ولا زال في ذات الحالة، البحث عن أي شيء يخص مقتل هوبر!

ومع ذلك توتر فهد من ذلك الصوت، فلملم اوراقه وخرج ليصيب بعضاً من الراحة!

وفي الطريق مر على امين المكتبة، وقال له: "من وين أطلع؟"

فقال له: "كما دخلت! من بوابتها الوحيدة، أبلغ بك الأمر أن تنسى المدخل؟" واشار لها وخرج فهد حاملاً مدوناته عمّا قرأ!

فذهب أمين المكتبة، ليرتب خلفه!

كان يمشي كما لو كان موسيقاراً ضاق به الإبداع بالوسطى على زر البيانو الأخير، ينقر .. ينقر .. ينقر .. وتتصاعد النغمات تصاعد خطوات الرجل للبقعة التي كان يقبع فيها فهد!

فعندما رأى كل تلك الكتب التي تكدست فوق بعضها، والمسافات بينها كأنها وديان تشق أرضاً جدباء،

وورقيات كلها بخط طالب نسي حل واجباته المدرسية!

فإذا نظرت الى وجهه وهو ينظر لهذا المنظر، ما تملك الا أن تتحس اذنيك، صوت نايٍ ذي شجنٍ يطوف بالمكان، وهو يدور بمقلتيه نحو الكتب المنثورة، فإذا دنى منها، سمعت ريشة العود تدندن كي تبعث بعضاً الهمة له،

فيظل لترتيب المكتبة لذته كالمسير في غابة فاتنة تشتبك اغصان اشجارها مع قمرها، أو كالمحيط الذي كلما سبرت غوره،استمريت غموضه!

كان يرتب المكتبة وهو يتمتم بكلمات كأنها التسبيح! غير واضحة،غير مفهومة،وان حاولت تبيانها، قد تتبين الأحرف لا الكلمة!

فلم انتهت الموسيقى، عاد كل شيء إلى مكانه!

ذات صباح كانت زيارة لها إليها، تحاول ان تُنسيها وتسليها، وهي تردد: في كل صباح اظن انه سيدخل علي بشقائق نعمان، ... ثم تضمت طويلا

 

ترتيب المنزل فيه انهماك لحظي يريح المخ من الانهماك في التفكير بالأشياء ومآلاتها، ويفضي شعورا بالسعادة إذ أن كل شيء يعود لمكانه المناسب ويصبح البيت نضرا

- يا كرهي لتس! ما لقيتي تعطيني ارتب لتس الا المطبخ! تراي جايه اساعدتس يا منيب قايله!

- مشاني يا هدى، بدو شغل كثير، وانا وراي باقي البيت!

- الله اكبر يا قصر الشيوخ هالحين!

- لفيها بقى!

- بعدين اسمعي، اذا تتشغلين شيء يسلينا فكينا من كاظم الله يعافيتس!

- ههههه ماشي!

اتجهت هُدى يمينا لهذا المطبخ الذي يبدو مثل برلين بعد القصف، وذهبت نسرين للصالة المقابلة له، واخذت جهاز التكحم بيدها اليسرى، اشغلت التلفاز على التطبيقات، بحكم انه تلفاز ذكي، وجلست تقلب في الاغنيات حتى وجدت ضالتها، فاختارتها، وهي تضع الجهاز على الطاولة شعرت ان هدى تضحك

فلما التفت اليها، لم تكن تكتفي بالضحك، وانها تهز رأسها كأنها تقول: ما تخلين حركاتك! فبادلتها نسرين بحركة بيديها اليمنى وهي تفرد اصابعها الخمسة بوجها: مالت عليك! لكنك تستشعر صوت الضحك رغم كل شيء!

الاغنية اورثت هذه اللحظة كانت تقول:

"مبحبش حد الا انت!

ولا نفسي كمان يا حياتي..."

كانت نسرين رابطه شعرها بمنشفه رمادية تتخللها خيوط وردية اللون لكن ذويولها - أي أطرافها - كُحلية اللون، وطبعا كانتا تصرخان، اذ ان صوت المكنسة وغسالة الملابس تشاركهم الصراخ الغالي، فبدأوا بتعلم لغة اشارة مؤقته تفيد بتأجيل الكنس حتى اشعار اخر، الا انها رفضت باشارة اخرى لها

بعدها،بدأت تمسح الممر الطويل حتى نهايته، اذ ان الرخام يحتاج مسح يدوي، وبالفعل اخذت خرقة خاصة، واغطستها في سطل التنظيف،ثم انحنت لتمسح الارض بيديها.

كان كل شيء يتحرك فيها،حتى السلسال الذي علقته يحمل الحرف فاء، وكأنه بندول ساعة حائط،لكن الرنة تأتي من الساعة الفعلية في غرفة المكتبة

فنيما تهي تخرج العناوين المتنوعة في موضوعاتها حتى قد لا يتيبين للداخل الأول مدى الترابط بينها، قررت نسرين ان تعيد ترتيبها،ان تجعل كل حقل في مكان خاص فيه، الشعر في ناحية،والرواية في ناحية وكذلك حسب منشأه الاوروبي في جهة والمحلي في هجة وهكذا، واثناء التفتيش عن كتب الشعر لتضعها سوية

سقط كتيب صغير معنون بأوراق الزيتون!

وقد فُتِحَ على صفحة في اول المنتصف منه، كان قد كُتِبَ في متنها:

"يحكون في بلادنا

يحكون في شَجَنْ

عن صاحبي الذي مضى

وعاد في كفنْ

ما قال للأحباب.. للأصحاب :

موعدنا غداً !"

فشهقت شهقة كأنها الموت! وجثت على ركبتيها تبكي بصوت مبحوح، وكُسِرَ طبقٌ

من يدي هُدى وهي فزعة لا تدري ماذا ألم بهذه المنكوبة!

فلما دخلت عليها وجدتها تمزق ذلك الكتيب وهي تبكي ثما رمته اماها اذ هدى تتلقفه وهي تقول:

"لا، لا، حيرجع، حيرجع!"

حاولت هدى ان تفهم منها، فلما علمت ذهبت لتهدئتها، وقالت: "لا تتطيرين! خلي عنتس هالحركات واذكري الله، الله يهديتس بس!"

ذهبت هدى لتعصر الليمون مع العسل والنعناع، وتعصر على نفسها ليمونة الصبر!

ثم لما اعدت العصير اعطته اياها،وهي مشدوهة، وتركتها تشربه بهدوء، وراحت لذات التلفزيون، وجلست تقلب في قائمة اغنيات المفضلة باليوتيوب، ثم اختارت:

"وارتوت نفسي بك يا احلامي ونصيبي

هوا في الدنيا يستحق كلمة حبيبي!"

وخلال هذا، اذ جرس الباب يئن!

ففتحت له هدى بعد ان تغطت "بجلال الصلاة" ورمت الجلا الأخر لنسرين، فلما انتصف في وسط السالة وهو ينظر لنسرين وهي تشرب العصير وتحاول تخفي ابتسامة خلفتها اغنية طلال مداح التي اختارتها لها هُدى، وهدى واقفة خلفه، فتركهم واتجه للمكتبة، فوجدها مبعثرة،

فبحث عن مفتاح الغرفة، واغلق غرفة المكتبة، ووضع المفتاج في جيب ثوبه الايمن ورجع للصالة، اذ هدى بجانبها، وفوق أمامهن وقال:

"نشفتوا دمي الله ينشف دمتس انتي وياه، على هالكمكمة انتي وهي كنكن رقية وسبيكة!"

قالت نسرين: "له له يا عمي! شومالك!"

قال مطلق: "الفقيه بس! المكتبة وقفلته! ...

... لو بس يجين طرف علم أنتس فتحتيه، لا اروح أنا ادور فهد وأقول له يطلقتس! سمعتي!"

وضعت نسرين يدها السيرى على فمها من ظهر كفها، الوسطى على فمها والسبابه علر ذقنها تحاول ان تخفي عبرة اعترتها.

فضمتها هدى لها من كتفيها، وقالت له: "هو يا أبو صالح، الله يهديك بس، وش هالحتسي!"

فقال لها: "ألفقيه انتي بعد! ما غير زامه عباتس وجايه، اكثر ومرعى وقله صنعة، فصفص وشاهي كراث وهرج مأخوث خيره!"

فقال هدى وهي غاضبة وتشد كم "جلال الصلاة" وتشيح بوجهها عنه، وتضرب نسرين علر كتفها الأيسر لأنها ضحكت من تعليقه وسط عبرتها:

"الله يهديك بس، هذا جزاتي اني علمتك!"

قال لها: "أها بس! الزبدة: ابكلم ابوتس تباتين عنده! الخبلة ذي ما تتخلى لحالها، الله يقلعه هي ورجله، وبعدين وش ذا الي مشغلينه! حطو البقرة والا ورد، كود يرد غايبكم، وبنشوف صرفة لكم، تغديتو؟ اكلتوا شيء؟"

قالتا بصوت واحد: "لا!"

فرد: "خلاص! انثبروا اجل ابنقز قريب اجيب لكم شيء يوقيكم!"

نزل من السلالم وهو يتحسب!

وشغل سيارته العتيقة، فرود كراون فكتوريا اصدار سنه ١٩٩٥ ميلادية، ادخل شريط عتيق كسيارته في المسجل، ليصدح بالكلمات التالية:

"ألا يا حرة باقصى فؤادي

آنا اشهد ان القلب والله تمشكل

حنين الشوق في قلبي ينادي

وآنا الذي ملزوم يا شوق اسأل"

ووقف عند اقرب محل بخاري

وجاب لهم حبه نص شوايه، وعلبه لبن!

والباكستاني يقول له: "ما يبغى حمضيات؟"

طبعا رفض هذا الاقتراح المدمر، وخرج وعاد خلال الطريق وهو يفكر كيف يعيد ترتيب هذا اليوم المبعثر!

صعد السلالم بعد أن هدأت اسراريرة،وطرق الباب، وفتحن له،والجو هادئ مستقر،وقد اعدتنا طاولة الطعام، فجلسن يأكلن بنهم

ودخل هو للمطبخ يعد له براد شاهي وهو يردد:

"انا القاها من مين والا منين!"

المهم انه وهو يرشف الشاي بكل لذة،ويرقب المشهد، حتى غفت عينه قليلا، ليستيقض على اتصال هاتفي!

ثم كانت هذه الردود المتتالية:

- بالله! عندك هو؟

- زين خلك حوله! لا يغيب عنك!

- ايه ايه عندي! بحيبه معي ان شاء الله!

وعندما هم بالخروج، قال لهم دونما ان يلتفت:

"تراي بسافر لجدة! منيب مطول ان شاء الله، لا احتجتوا شيء علمون، وتراي تركت تحت علبة المناديل فلوس عن سبحان لله!"

ولم يهملهما فترة للرد، اذ اغلق خلفه الباب وخرج!

خرج ولم يشاهدوا وجهه، بصوته الجاد الهادئ وكأنه يسدل الستار على فصلاً من مسرحية ما.

خرج خروج المفتَقَد!

وكأن خلفه كمانٌ حزين يعزف، نايٌ يطيف حول نغم الكمان!

مشى بكل هدوء، يمسك دربزين الدرج، حتى وصل باب العمارة، ثم وقف قليلاً ليتنهد، لمدة قد تبدو للمشاهد له بين الربع ساعة لنصفها،

لكنها مرت كثواني بالنسبة له، ثم فتح الباب وخرج، يطرق الارض وكأن خلفه من يطرق اوتار الكمان لتعبر عن خروجه هذا، وغضبهُ يرابط معه، كجندي قبيل ساعة اطلاق الرصاصة الأولى في المعركة!

اتصل عليها وقال: "الحين وجبت الزيارة يا أم فهد!"

واتجه لأكثر مكان لم يبالي به الا في هذا اليوم: المطار!

انتبذ كرسيا في خاصرة الطائرة، وكأنه أراد كل شيء أن يتوقف الا من حركة الطائرة إلى هُناك!

ما عاد يبالي الا به!

لأول مرة يبدو مطلق قلق! لكنه كما "جِبِلهْ" اي شديد في كل تصرفاته، حتى عندما بدا قلقا، لم يبديه لأحد، حتى في اتصاله على زوجته! وكأنه الأمر العسكري بالتسريح!

وقد أمتثلت!

وجائت أم فهد!

إمرأة شديدة، بنظرات حادة، تكحل عينيها، عرجاء، ليس من اصابة، إنما رجلها اليسرى اقصر من اليمنى، ولهذا تستخدم عكازاً خشبياً للتكئ عليه، وتخضب رأسها بحناء تحيله للون أقرب للأصهب، كي تخفي بوادر الشيب، تحب لبس دراعات لونها تركواز، لكنها تتحجب بالأسود، كي تسكر حدة اللون،

جلست والخوف بعينيها، تتأمبل عيني نسرين، أن لا تحزن، لكن الفجيعة هي المكتوبة عليها!

جلست فوق الثلاث ساعات تقص لها كُل الحكاية، كُلها، ثم أنها ظلت مشدوهة كأنها مسافر فقد الماء!

فحبيب قلبها صار نائما في قفص!

من سيدخل حجرتها، يداعب ظفيرتها، او حتى تعاتبها او يخانقها،

كل هذا مفقود!

ظلت واجمة صامته!

كأن النور انطفأ من المكان!

وساد الغيم وتساقط المطر المشؤوم!

حملتها هُدى كأنها دمية ماتريوشكا لكن ذات مفاصل رخوة، وادخلتها غرفتها بعدما ساعدتها في تبديل ملابسها، وسجتها في فراشها، ثم اخلقت الباب خلفها وخرجت لتجلس مع أم فهد، فسمعتها تقول ابيات بن لعبون:

ضحكتي بينهم وانا رضيع

ما سوت بكوتي يوم الوداع

 

هم بروّني و انا عودي رفيع

يا علي مثل ما تبرى اليراع

 

طوعوني و انا ما كنت اطيع

و غلبوني و انا قرم ٍ شجاع

 

ثم حاولت تستجمع تفسها، لكنها القت عكازها ورفعت طرفي كمي العباءة وغطت عينيها وبكت بلا صوت!

فقامت هُدى تقبل رأسها، وتهدئ خاطرها!

عند الرصيف البحري في جدة:

فهد يقف وقد أوغل التحديق في البحر، والتفكير، والانتظار، وكأنه يعلم أن تنتيف تاج الورد قد قتلها حباً له، لكنه رأى فيها قرينه الذي قد يجد فيه ما يبحث عنه!

وعند المغيب، وقد هب نسيم كأنه السموم، التفت يميناً، وهو يراها تجري، رأى خلفها رجلاً يمشي بسكينة ووقار

كانت بولا كلما افتربت من فهد، تستحيل إلى سراب، فلا يدري أهو من فرط حرارة الجو أو اللقيا، أو أنه بسبب ذلك الرجل الذي يمشي خلفها، الذي كلما اقترب بدت ملامحه واضحة كفلق الصبح، على العكس من بولا،ولكنه فضل أن لا يعير أي اهتمام لشكوكه، ومد يده للسلام، علها جلبت له شيئا يساعده على رحلته

لكن ما إن وضعت يدها في يده، حتى أنهارت صورتها أمامه،وتساقطت تساقط المبنى حين يُهدم، كأنها صورة رقمية في فيلم سينمائي وحذفت!

وظهر خلفها ذلك الرجل السبعيني الشديد، الهادئ، بشماغه الأحمر، وقد توقف قبالته وهو ينظر إليه ولم ينبس ببنت شفه!

عن يمينهما صفحة البحر، يسقط فيها قرص الشمس

وخلال انطفاء القرص وهو ينزل تدريجيا في البحر، بدت ملامح الرجل تظهر، بحواجبه الكثيفة، وشاربه المميز، بلا لحيه، قد تآكل وجهه من جدري أصابه فيما يعرف "بسنة الجدري أو سنة الرحمة" فآثار في وجهه في كل مكان، وتخلف تاريخا خلها، ثبت الشماع بعقال مبروم، وثوب نجدي قديم، ذا ثنيه في المنتصف.

فلما اختفى قرص الشمس، وتبقى آخر ضوء النهار، قال فهد للرجل:

"يبه! وين بولا؟ قلبي كان بنبض وبغى ياقف يوم شفتك! أمي جاها شيء؟!"

لكن العم مطلق لم يرد عليه، وأمسك بيده، وأشار له أن سر مي، فهد التزم الصمت، وسار معه وركبا السيارة، وتركا المكان بعد تمام المغيب!

- هذا طريق المكتبة يا يبه!

لم يرد عليه مطلق، واستمر في القيادة، حتى بلغا مبنى بسور قصير كالزنازين، مدخله كدفتي كتاب، واوقف مطلق السيارة، واخرج هاتفه المحمول، ورن رنه واحده، واغلقه!

قال فهد: ليش وقفنا عند المكتبة؟

لم يرد عليه!

وساد صمت طويل ...

حتى نزل من درجات المبنى عند البوابة

رجلٌ مألوف عند فهد!

ففهد سأله: أنت تعرف عمي؟ شلون!

قال مطلق: هذا الدكتور عبدالرزاق علي، وهذا مستشفى للصحة النفسية بالطايف، وتو كنا في الشفا مب عند الكورنيش!

كان الخبر على فهد كالصاعقة لانه لم يصدق، بدأ يصيح: أنت منت عمي مطلق! شكلك تبي تقتلني زي ما قتلتها عند الكورنيش....

وبدا يهذي، وحاول الهروب من السيارة، لكن مطلق أمسكه من يده، واركزه حتى كادت تنقطع، وظل يصرخ وهذي حتى خارت قواه قلما هدأ، قال له مطلق: هد يا وليدي، اسمع تراك لك شهر وانت تارك علاجك - واخرج له علبة الدواء - انت فيك ذهان متقدم، وانت تترك العلاج بين فترة وفترة علشان دوامك

لكن انك تقطعه نهائي، بغيت تجيب فينا العيد كلنا...."

وجلسا يتحدثان حديث مطول في تفاصيل عديدة، عن حياته وان كل هذه الاصوات التي يسمعها والأشياء التي يراها ما هي الا أوهام راسخة جراء أعراض الحالة التي يعانيها، وانه يجب أن يستمر في تعاطي العلاج حتى يتعافى من الحالة تماما

ومع اذان العشاء، ذهب من الطبيب الى الداخل، وضرب لهم موعدا بعد شهر، حتى تستقر حالته.

عاد مطلق للرياض وتواصل مع مكان عمله لكي يمدد اجازة ابن اخيه، ثم عرج على البيت كالمنقذ، ودخل عليهم المنزل، وطمأنهم أنه لم يصيبه مكروه، ولكن الطبيب ضرب موعدا بعد شهر للزيارة!

بعد أشهر:

 

كانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا، وصوت الباب يأن ليس من فرط حزن، لكنه الحنين، ففُتِحَ فإذا هي أمامه، بيديها أبريق عتيق وتغمز له، قال لها: انا تعب! ويومي مضنٍ! هل من راحة؟

ردت: يداي لك وسادة!

فابتسم وقال: وشاهيك الذي بالابريق، هذا، مر ام حلو؟

ردت: سكر زيادة!

 

تمت