الخميس، 23 يناير 2020

الإيرلندي

ما الحياة؟
هو أول سوال تقدمه النفس السوية لصاحبها!

ما الحياة؟
هو سؤالك الأول لذاتك في لحظة وعيك الأولى!

ما الحياة؟
رحلةٌ هي أم حُلم؟
أهي أمل، أم رجاء؟

ما الحياة؟
سؤال لا تعرف إجابته إلا عند الخروج منها، بالموت!

يفتتح مارتن سكورسيزي فيلمه هذا بالدخول في سرادق مظلم تلج منه لممر في دار عجزة تابعة لمشفى، تنظر فيها لكل هؤلاء المرضى - كهولاً كانوا أو عجزة- لم تنتهي الكاميرا عند قدمي رجل مثقل بذاكرة مرهقة ليبدأ في سرد الحكاية!
لكن انتظر: ففي هذا السرد هو يروي كيف تعرف على كل الشخوص الآخرين راسيل وريزل وبرونو وحتى جيمي هوفا أشهر من نار على علم بينهم، لكن أين هو من الحكاية؟
هو كان المتفرج في صالة السينما لفيلم واقعي يجد فيه نفسه مدفوعاً دفعاً للمضي قدماً حتى نهاية المطاف، من بين دوافعه الداخلية للوصول، وبين طموحه الجامح للغنى والجاه، لكن مع كل هذا الصعود المتسارع، رغم الحياة الطويلة الحافلة، ظل هو كالمتفرج تاما وظل ينظر له كبيدق للشطرنج لا هدف له الإ أن ينهي حركة الملك!

فرانك شيران كان شخصاً عادياً انخرط في عالمين متقاطعين بينها مركز يدوران حوله: السلطة!
فكلا العالمين يبحثان عن النفوذ للوصول للمبتغى، فعالم الجريمة المنظمة يسعى لتغطية اعماله، وعالم النقابات العمالية يسعى للحصول على المزيد من المكاسب، وفي لحظة فارقة احتاجت احدى هذه النقابات لمدية حديدية تضرب بها الحكومة، دونما أن احسب عليها هذه الضربة!
وهذا ما وجده جيمي هوفا لدى راسيل بافالوني، فكلا كانت ضالته عند الاخر، وكليهما جذبه المركز لعالمه!
كان فرانك شاهداً على هذه الوقائع دونما ادنى تأثير منه على أي مجرى، فقط مجرد مراقب وكأنه حلقة وصل في فراغ لجمع هذين العالمين، وكان هو هراوة الرجلين، ولهذا فقط كان يدين لكليهما بالفضل.
مع زخم الامور وتعقدها، تبدأ بطاقات الورق بالاحتراق، كناية عن عدم نفعها للعلب مستقبلا، لتضاف شروط جديدة للعبة، وتصبح الحكاية كمجال ذري قابل للإنفجار لأدنى تحفيز، لتأتي اللحظة الفاصلة الوحيدة التي كانت من فرانك غير فيها كل مجريات الحكاية التي كان يراقبها، بأثر منه مدوي أعظم من أثر الفراشة، فيقضي على قطب العالم الثاني، للتضيع بسببه كل تركيبة المعادلة، وكأنما اغلق الفيلم في صالة السينما التي كان فيها في ذروة المشاهدة! 

لم يكتفي مارتن هنا لينهي الحكاية في المحكمة، بل سار معه ليريك كيف ارتد في الاخير ليكون جل طموحه البحث عن رحيل من هذه الحياة، رحيلاً جليلاً، باحثاً عمن يتفقده أن لم يحضى بغفران الرب، بعد أن كانت غاية أمانيه أن يكون مقرباً من رؤوس كل الأهرام!

كان هذا السقوط في هذا القاع من هذا العالم الوضيع كفيلا في ان ترى كل هذه الوجوه ما هي الا اقنعة، تخفي خلفها غايات تغذي الأنا المتسرطنة عند كل سخص، فكما ان راسيل كان هو المجرم الذي يستتر بالاعمال الجليلة علننا، كان جيمي هو الجليل الذي يستخدم الجريمة لتمرير غاياته النبيلة في ميكافيلية صارخة، وفراك بين الاثنين ينظر كيف ابنته تنظر للاثنين من اي منطلق. 
لكنها - اي ابنته-كانت الشاهد عليه في ظل كل هذه الحكاية، في هذا المستنقع الذي لفته الاخلاقيات والمبادئ.
لكن فرانك ظل لآخر لحظة منتظراً يترقب، تاركاً باب حياته مجافى لعله يأتي زائر يسليه، وينسيه ما رأى حتى لو كان الموت، ليبقى أمام ذات السؤال بعد هذا العمر الممتد، ما الحياة؟


الجمعة، 17 يناير 2020

هل هو مَجاز ؟ - (The Grand Budapest Hotel (2014



~ هل هو مَجاز؟

المجاز في اللغة هو التجاوز والتعدّي. وفي الاصطلاح اللغوي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة. أي أن اللفظ يُقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له علاقة غير مباشرة بالمعنى الحرفي.



كلوحة فنية، كقصيدة منقحة من شاعر عتيق، هي حكاية لمعمر متأمل لسيرة لم يكتبها بعد!
هكذا تجمع نجوماً في جو خيالي، لتروي حكاية لطفلك الصغير قبل النوم، كمسرحية حضرتها مع أبيك الذي لا هم له إلا تسليتك أيها الصغير، والموسيقى هي همهمته وأغنياته لك لتنام حتى تصحو لليوم التالي،

.....

بالأمس كانت قصتك جميلة، هل سترويها لي من جديد؟
لا أدري يا بنّي لعلها هي حكاية واحدة تُروى لمرة واحدة في العمر!

.....


في ذلك العالم البعيد، في بقعة ما من القارة العجوز أوروبا، قُبيل إحدى الحروب، حدثت هذه الحكاية، هو مجرد عامل صغير عند مدخل باب أحد الفنادق، ليصبح في اليوم التالي مديراً له، هي احلام الأطفال التي يتمنونها مثل امنياتنا بمصباح علاء الدين.
لكن إنتظر، هذه ليست مجرد أمنية، فهي تذهب خلف كل المضامين التي تركتها الإنسانية خلفها، مشارف حرب بين عده اقطاب في قارة شبيهة باوروبا، وطموح لأبطال من ذوي اصول غير اوروبية وحكايات العشق والحب المغامرة المشاكسة!

الفيلم هنا لا يقدم لك تصور..وجهة نظر..او اعادة طرح..ابداً، هو يقدم لك عالم ساحر يحبسك بداخله وكأنك انت ذاك العامل على باب الفندق، او ذلك الشاب الذي هام بحب عجوزٍ ثريةٍ قبيل اندلاع الحرب، او حتى حفيدها ذاك الوغد السليط اللسان الطامع الطامح، بصورة جمالية ابداعية، بايحاءات لواقع استلهمه تاريخيا كإطار للصورة التي اراد حبسهل ورسمها، سخر له اداءات خلابه وموسيقى ساخرة تجبرك على غوص العالم باشتراطات مبدعه.


ليس من الضروري احياناً ان تقدم على عمل يحوي عمقاً ما، او رسالة مبطنة، .... الخ
لكن ان تقدم فنا متماسكاً نثرت فيه ابداعاً نقدياً بايحاءات اضفت رونقا جديداً عليه، كحكاية لجده ترويها لصغارها، لا تمل من تكرارها، تجربة الجلوس عند حكواتي له اسلوب لوحدها فريده!

الرمزية والمجاز والإيحاء كلها ادوات ادبية، من المهم لكل فنان، شاعراً خطيباً كاتباً مسرحياً او حتى سينمائي ان يكون ملماً بها، ليس دائما من الجميل ان تكون مباشراً في طرحك، كما هو النقيض من ذلك ان تكون غارقاً في الترميز، من الجميل ان تكون ذكياً في استخداماتك لها، كما صنع كوبولا من فاكهة البرتقال رمزاً للموت!

هذا الفندق عالم ساحر فتّان، وتجربة تستحق ان تعاش لك يا عزيزي المشاهد،



حرر في ١٩ يناير ٢٠١٥