الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

في معرض حديث في جوف الليل

"‏هل الكتابة تخفف من ثقل الكلمات؟" - سألت هي
"هل وجدوها مسطرة أمامك يمحيها من جوفك!" - تجيب باستغراب! 
"هل نشرها للأصدقاء توضع النقاط!" - تعيد السوال من جديد! 

قلت لها:
لم تظنين أن هذا هو مآل الكتابة؟ 
الكتابة ليست فعلاً مقدساً، لكنه هو كتنسيم البالون لأن لا ينفجر، اللهم أن بالون نفوسنا ليس كذلك! 
فنفوسنا المُثقلة، بذاكرتنا المُرهَقة، تلجأ للكتابة لطرد أي رتوش أو تكثف لمعاني ومضامين، تعتري أي موقف ما. 
الكتابة تؤدي لنا هذا الغرض بعناية فائقة، وبجودة تورية لا تجدينها حتى عند اعتى عُتاة الباطنية، وقد تحيل الى كشف دونه كشف الصوفية. 

ردت: "كنت أظنها منفس وأصبحت مهرب، وهذا يحبطني ويحزنني ويقيدني كغراب منتوف الريش هذه اللحظة، حيث أجدني أرغب بالتعبير ولكن النص يعيد نفسه. والكاتب ضجر من ختم الرسائل."

قلت:
الكتابة ليست هروب، إنما مناجاة!
والمناجاة تكون في السر، وما يخرج منها للعلن هو تأثيرها، فالحالة التي تُلجِئ للمناجاة تفضي لما بعدها، كما يخرج الله اللبن من بين فرث ودم!
هل تعين قولي؟

صمتت!

فقلت: اعلم ان هذه الأسئلة مرهقة، ولهذا نعتذر، لكن حتى هذا الحديث لبس هروب إنما مسرّةٌ! 

السبت، 24 أكتوبر 2020

الرحيل من حلم الذاكرة - قصة قصيرة -

شاهده وهو يبكي وانحنى له تحية من شخص عظيم لهذا القطار الذي غادر برلين متجهاً إلى سويسرا.

لم يكن يعرف كيف يرتدي القبعة، ولا حتى تنظيم أي شيء يخصه،لكنه يستطيع فهم اي شيء منظم.

منذ أن تركني لكي يلحق القطار لعله يدركه وانا لا ادري اين ذهب.

لم يبرق لي ولم يراسلني

 لا زلت انتظر

 نسبياً

في شتاء ١٩١٤م عاد

عاد وكأن شيئاً لم يكن، وبراءة الاطفال في عينيه

قلت له:

"كل ذلك الحنين خبا؟"

قال"لم يكن عليها ان تأخذ الأولاد، كنت فقط طلبت أن ننفصل، لا أن أخسر عائلتي!"

"وما أنت فاعل؟"

"ايييي لا أدري، لعلي كبرت وضعف قلبي، دعك من هذا، هل أحضرت كاميرات التصوير؟ سنسافر للقرم غداً!"

"في هذا الوقت؟"

"؟!"

"القيصر أعلن الحرب على الزار"

"وما شاننا نحن؟"

"هدئ غضبتك، سيكون الأمر كما ترجو، إن شاء الباري"

"لا تدخلنا أيضاً في هذه المجالات"

"انت رجلٌ متعب" قلتها ساخراً

فضحك وسحب الكرسي وجلس وبدأ بالعزف لحناً فلكلورياً مسلياً دفعنا للابتسام

- فيما بعد - 

في مقطورة يقطرها قطاراً يحاول الخروج من رحم أوروبا، 

كتب:

"تفتح الندبات وتأخذك إلى عالم لم يكن فيه ذلك البحر ولا تلك الجثة كأني بها السنين وذلك الماضي التليد أريد أن أخبرك بتفاصيل يومي، عن عائلتي، وكيف احتملت، أريد أن أخاف قليلاً، أو أن لا أخاف، من اصدقائي، زملائي، هل تعرف اسماءهم؟ ينتابني الفضول، وكأني طفلاً ينظر لطفلٍ في........

سقط عنه القلم وهو يرتجف!

"آلبيرت"

"آل"

هززت كتفه بقوة، وجعلت أردد اللعنات..

اللعنة... اللعنة عليك،وعلى هذه البعثة،والحرب والقرم،وهذا القطار الذي يزحف، اجبني بالله عليك!

بعد الهزة الأخيرة تركته واستلقى رأسه، نظرت وإذا الحبر سال من القلم، تلقفته كصبي وأوقفت نزيف الحبر، فسمعته يتمتم، قال:

"كأني أسمع رعداً!"

قلت:

"هو ذا عندك، ممسكاَ بقلمك النازف من مأزق الموت، لا تخف لا يزال يزخر دماً أسود"

-"سأحتاج للفصد"

ثم غفى...

صوت باب المقطورة يفتح...

"مرحباً... اتسمع لي؟"

تحركت من مكاني، فجلس!

"منذ متى وهو مستلقٍ هكذا؟"

"منذ نزيف القلم! أيهمك هذا في شيء؟"

"كنت أنا من أخبرك أنه تاخر عن موعد القطار!"

أعلم، ولهذا لم أندهش، لكني استنكر عليك أنك تهتم له ولا تساعده"

"هو لا يساعدنا لنساعده،،سيجارة؟"

"شكرا"

كان يقرأ له:

"حبيبتي ماريانكا, أريد أن أدخل! وكأنما قد بوغتت بكلامه, فمحت أثر الدموع من عينيها, وبدا وجهها أكثر جمالاً وروعة في حزنها, ونظرت إليه في صمت رهيب ولكن اولينين لم يحتمل ذلك فعاد يكلمها: معبودتي ماريانكا.. لقد حضرت.. ولكنها أجابته في رزانة: بالله عليك, اتركني وشأني! وظل وجهها جامدا، أما الدموع فقد تدفقت منهمرة من عينيها.لماذا تبكين يا حبيبتي؟ ماذا هناك؟ ما خطبك؟ ورددت كلمته الأخيرة: ما خطبي؟ لقد قتل القوقازيون،هذا هو الخطب فقال اولينين:تقصدين لوكلشكا؟ اغرب عن عيني ماذا تريد مني. فدنا منها اولينين وهمس حالماً:"

عندها استيقض آلبيرت وقال: أأحضرت نوعي المفضل؟

 فرد عليه قائلاً:" هذا مزيج تبغك المفضل، من الهند، وروائيك الأثير ليو تولستوي، كنت أقرأ لك جزءاً من نهاية حب"

فاعتدل في جلسته والتفت إلي وقال:" يريدنا أن نظل محاطون بهذا البرد خلال هذه الرحلة" وضحك متهكماً...

دخلوا علينا يسألون عن جوازات السفر، وعن تذاكر الرحلة للقرم، وبعدها دخلت مضيفة المقصورة تسأل عما نريد،ورأته مستلقياً،فسألت إن كنا نحتاج للطبيب،لكنه عندما رآها تذكرت زوجه ملينا،وكأنه لم يستيقظ من حلمه،قال لها:

- Ты русский-

قالت نعم!

فأكمل وصوته كأنه سيغفو

وبلسان ثقيل: Я тебя люблю

المسكينة احمرت وجنتيها خجلا وجاء بدلاً عنها ضابطاً روسياَ جلفاً كريهاً أنهى هذه الإجراءات الكريهة مقله، ورمى في وجوهنا اكياس الشاهي خرج بخطواته المثلقة الغاضبة!

اعددناها ونحن نختزن ضحكاتنا حتى لا تنفجر المقصورة فكاهة، ونحن نرى لوحات الوصول للمحطة

وعندما نزلنا ونرى دخان القطار تمازج مع بخار الماء، جمعنا امتعتنا في عربة، وبحثنا عن كشك لنبتاع صحيفة،أي صحيفة وأشياء للتسلية في الطريق، عند الكشك وجدنا ذلك العازف ذي الصوت الدافئ قد تجمع حوله الناس، ينشد اغنية قديمة. 

 استقلنا سيارة أجرة تقلنا إلى سيمفروبول، وضعنا الحقائب، وتركت معي سلة صغيرة، وابتعنا القهوة للجميع قبل أن ننطلق،وضعت السلة على قدمي وفتحتها،فقالوا:هذا الذي ابتعت لذيذ، ما اسمه؟

- بيروشكي!

- لكنها تختلف عن التي عندنا - قال آلبيرت

قلت:التي عندنا بلقانية،المهم هو التسلية!

- انت محق!

طال هذا السفر، وقررت أن أغفو، نمت وكأن ارسال بث هذه الحياة قد قطع، آخر شيء اتذكره منظر الشجر وهو يمر امام شباك كرسي الراكب الخلفي، كنت أحاول أن أظل مستيقظاً، لكن النعاس غلبني.

كان حينها الجو عليل والضجيج قليل، ولم نجد قنوات تفتيش عسكرية كثيرة، يبدو ان سعار الحرب لم يشتعل بعد.

اشتد هذا الشتاء في العاصمة، لم نتمكن من الذهاب للمرصد الفلكي،لأننا تجاوزنا الحدود فظل دوماً فوق رؤسنا أننا من دول المحور داخل احد دول الحلفاء يحملون الكاميرات، هل نحن جواسيس؟

هاجس جعلنا نرتعب حتى من فكرة الخروج،لكننا تعاقدنا مع سكرتيرة انجليرية تعيش هناك،من الحلفاء،لعلها تساعدنا!

"اعجبها المرتب؟" قالها الذي شاهده

"مسمها؟" سأل آلبيرت

"ما اسمك؟" سالتها

"هيلن يا سيدي!" هي أجابت

في صيف ١٩١٥

...

..

رمت اوراق الآلة الكاتبة، ثم قالت:" أوووف انتم مجانين! مجانييين! مجااااااااانيييييين"

طبعا قالت ذلك لان الرفيق الأول كان يريد منها قراءة الجرائد له وهو يدخن، وانا كنت اطلب منها بعض الأفلام بينما كنت منهمكا في شرب الشاي،

بينما آلبيرت كان يكلفها بترجمة مقالات الفلكين والاحوال الجوية للمنطقة وهو يعزف على الكمان سمفونية بيتهوفن الخامسة،انتشلت منه الكمان وحطمته!

فساد صمت مطبق الا من صوت بكرة الفيلم الذي يدور في هذه الصالة، كان فيلما لتشارلي تشابلن، يبحث فيه عن عمل هو الآخر، ويتشاجر مع احد المتقدمين للوظيفة على سيجارة. 

فقد حولنا صالة المعيشة لصالة عرض، بقي فقط شباك تذاكر حتى تصبح رسمية!

المهم ان الكل نظر اليها، عداي الذي كنت منهمكا في مشاهدة المتشرد وهو ينتظر وظيفته الجديدة، ونسيت فنجان الشاي حتى برد

 قال لها بكل برود، وهو يعدل شاربه، "ما بك؟" واشعل غليونه... آلبيرت

قالت - وهي تصرخ- : "اولا ما اسم ثالثكما الذي لا يهتم الا للصحف، ثم كل هذه التراجم لم؟ وانت لم تخرج منذ ان قامت هذه الحرب اللعينة! وهذا الذي كلما اضعناه عرفناه من عدد اباريق الشاي التي يخلفها....

قاطعها وقال: الذي كأن صوته رعد؟

قالت: مهما كانت الطقس، هو، انتم هنا ثلاثتكم على كاهلي مللت، ملللت ملللت

فقال لها: "لكنك كنز اثير يا هيلين!"

قالت:" حقا؟ بلا مجاملة؟ اترغب بكعك مع كوب القهوة؟"

فاوما براسه، فقالت:"تأتيك يا سيدي"

وخرجت انا وثالثنا، لنتركها وسيدها مع الكعك والقهوة وانسحبنا بهدوء مع صوت خشب الصالة

"لِمَّ أذهب للمرصد؟

لم اعد قادراً على شيء ، ولا إضافة أي شيء، فقط تدخين الغليون! لقد كبرت يا هيلين!"

".........."

"تحبين دوما الصمت، أين هم عائلتي الآن؟"

عند الباب ونحن نرتدي الأحذية:

"لم تقل لي... ما اسمك؟"

ثم سمعنا صوت قذيفة دوّى، وصوتها الساقط دمر المرصد الذي امامنا، وتناثرنا مع الجليد في كل جهة، ارتطمت بثيب ثلجي، ورأيت قبعته تطير، وانا اغمض عيني رأيت الجند يعبرون أمامنا!

شتاء ١٩١٦

في سجن انفرادي بمدينة كازان، استيقضت على صراخ للنفير، وصراخ السجناء وهم يلهثون في سكب الماء البارد على رؤوسهم في هذه المدينة في العمق الروسي حتى تتقطع اما قلوبهم او عروق اعناقهم من هذا الصقيع، صراخ في كل الجنبات وانن في عرفة بطولك كالقبر، لا تعرف جارك الا من النقر، عرفت مع مرور الأيام أن ثلاث نقرات لتتري حيث عادة نببهم،فالقوم احناف على كل حال،وإذا كانت خمسا فهو روسي،وإذا سبعا فهو من قومية خارج الإمبراطورية الروسية،اما اسرى المحور لا ينقرون،لانك تسمع صيحاتهم مع صوت رمي الرصاص في الساحة، انت لا ترى شمسا هُنا،فقط ثلج أبيض يشقه عرق دم أحمر!

معظهم من رجل أوروبا المريض،وهذا بدوره قومياته كثيرة، لكنك لا تستطيع تميرهم من الصراخ الا اذا نطقوا،تعرف ان كان عربيا او كرديا او تركيا او ارمنيا او غيرهم.

انا كل هذا لا يهمني الان،صاحبي لا ادري ماذا حل به بعد ذلك الانفجار،اذكر اني سحبت مقيدا،لكازان في هذا العمق القارس من الحكاية!

سمعت صوتاً خافتاً يتمتم:

"بينما كنتُ أومئ،بالكاد أغفو،

فجأةً هُناك جاءَ دَقّ،

وكأنّه شخصٌ يرقّ،

على باب حجرتي يطُقّ،

“إنّه زائرٌ ما!”تأفّفتُ،“يدقُّ بابَ حجرتي؛

هذا فقط،و لاغيرَه معي”

فقلت وانا اضرب الجدار براحة يدي كلها:

"ادجار الان بو...ادجار الان بو..."

قال:" كأنه هزيم الرعد"!

قلت:" الأجواء تنذر بعاصفة رعدية، لكني هُنا الأن، ماذا حل بك؟"

"إني في الزنزانة المقابلة، ظنونا جواسيساً من الامبواطورية الألمانية!"

"لم يعلموا أن آلبيرت المسكين، فقط يريد رؤية الزُهرة!"

"فقط، ولا غيره يريد!"

"لم؟"

"لانه قرين رحلة القطار، تذكر حينها عندما لحقت به عاد لساحة المدينة، ووقف عند الساعة، بقبعته المائلة التي لا يعرف كيف يرتديها، ووقوفه المتأمل،تميزة بين الناس،ينظر للساعة، كانت الثامنة صباحاً،علم حينها أنه فات الموعد الذي يقترن فيه الزُهرة مع القمر، يلمع نجماً، فطفق يقرأ في المقالات العلمية، يبحث عن الاقتران التالي ليشاهده!"

"ومتى الاقتران التالي؟"

"في السابع من نوفمبر ١٩١٧م،هذا ما اشارة اخر مقالة ترجمتها هيلين له،لكن لم تجبني: ماذا كان اسمك؟"

"نيلس،من الدنمارك!"

"ما الذي جمعك به؟"

"الجامعة في زيوريخ،كانت بيننا اهتمامات مشتركة،وكان هنالك شاب قصير القامة أصلع ذو لحية قصيرة،يعكف على كتب كارل ماركس، كان دوما يردد أن من رحم الأحزان تولد الثورة، كانت ملامحة حادة،تبين عن نهم شديد للمعرفة،لم أتبين ملته، رغم أنه قال ذات مرة ان لديه أصولاً تركية تشوفاشية من ناحية والديه، لكني لم اهتم كثيراً،المهم كانت افكاره ملهممة، للامانة اختياراته للكعك متميزة،تشعر أنه إنجليزي، كان يحب الشاي، اتصدق أنه ذات مرة قي معرض حديث مع الشاعر الإنجليزي إدوارد توماس تنبدأ بهذا الصدام الوشيك، والساخر كان يكره ضابطا للبحرية عندهم يدعى وينستون"

"هل تتذكر اسمه؟

" اظنه.... فلاديمير لينين! "

وعند المرصد المتحطم:

"هيا أخرج أنت وعشيقتك الشمطاء،ظنناك ذلك القانوني البغيض المقيم في برلين، فلاديمير،أترك هذا المكان وعد لديارك،فقد سمح الزار بعودة بعض الألمان تكرماً لأجل الإمبراطور"

خرج حاملاً حقيبة ناجية متكئاً على هيلين، وإن كانت تعلقت بساعده كقطة تلاعب مربيها، أوليس سيدها،

ألتفت على ذلك الضابط وقال:

"هل أنتهى هذا التحقيق إلى الأبد؟ ستة أشهر كأنها يوم الحساب، ولأجل رجلٍ واحدٍ تهابه إمبراطورية بحجمكم، رُباه، ما كان لهذه المدة المتململة من آخر، كل يوم ذات الأسئلة ذات الشخوص، ذات الأجوبة، في ذات المكان المتهالك،في العاصمة سيمفروبول،على طرفها المنزوي وليت كل هذا أنتهى لقرار، فوق كل هذا طرد من المكان وكأنه قتل رحيم، ولا أعلم أي مصير ينتظرنا،..."

فإذا بكعب البندقية يضرب رأس آلبيرت ويوقعه دامياً، وهو يقول:"ألم تنتهي مرافعتك بعد؟"

فقام متثاقلاً وأخذ ثلجاً بارداِ وضعه على رأسه وقال لهيلين:"هل في حقيبتك الملك لير؟"

فأومت برأسها

فقال لها:"إقرأي لي مونولوج لير عندما طُرِدَ من عند بناته في الغابة!"

وبمشيته المتثاقلة وإتكاوه عليها، فتحت الفصل من الكتاب وما إن قالت:"أنت ايها الرعد الذي..

حتى دفع هيلين من يديه وألقى بالحقيبة وطفقت تجمع الحاجيات من خلفه،وهو بصوت غاضب حزين تحت زخات المطر ووميض البرق وصوت الرعد

 "انت ايها الرعد الذي يزعزع الكل 

أضرب هذه الأرض حتى تصير مسطحة ملساء 

صدع قوالب الطبيعة

بعثر جميع البذور التي ينمو منها الإنسان العاق"

ثم جثى وربت على كتفه وقالت:"العربة امامنا يا سيدي...انت خذنا للطبيب أولا"

"أجل يا سيدتي"قال السائق

ثم ضرب الخيل بسوطه فانطلقت مع الرعد وهو يموج! 

 في زنزانتي في كازان، سمعت ثلاث نقرات علي جداري، فرددت بنقرات متتالية دون توقف لعله يفهم اني لست تترياً، لكن النقر توقف فجأة!

وإذا بمنادي ينادي:

"نحو الجولاك، تحركوا.... تحركوووووا!"

ونسمع السياط تضرب الخيل، وصهيلها يدمي وهي تجر الناس لحتفهم، بت اشفق على من بالخارج ليتهم معنا هُنا، صار السجن جنة بأعيننا، حتى أن ساجينا ألفونا، صاروا يلقون علينا التحية قبل أن يبصقوا في وجوهنا، ليس فعلياً على كل حال، لكن كما في أفلام السينما، المهم أنهم بدوا يعرفون حدثني مع أجواء اليوم، فكلما كان صاحبا تبين القول عندي، كان سجاننا يدعى سيرجي، ليس كأقرانه، يبدو لأنه أبٌ لبنات عدة، طلبت منه شيئاً للتسلية، فطلبت ذكريات من منزل الموتى لفيودور دوستويفسكي، هو كان يستغرب اختياراتنا، فآلبيرت كان يحب ليو تولستوي، ونيلز نيكولاي جوجول، طبعا عرف كل هذا من حديثي معه، فهذه الأيام من نيلز في ترتيب وتنظيف الساحات والملاعب،ولهذا لا أجد وقتاً لنفسي وإن كنت طول الوقت محبوسا، كان دائماً إذا قلت له:

 "لا أجد لنفسي الوقت" نتبادل الضحكات الساخرة! "كيف وأنت في محبسك لا تجد لنفسك الوقت، كل الوقت لك حتى كسوف الشمس كنت ترقبه، وصاحبك الذي تحكي لي عنه لم يجد كوكبه بعد!"

 وذلك كما يقولون من سخرية القدر، "لكن النصيب" كنت أقول له. 

يحسدني على كسوفٍ للشمس، وقد كُسِفَت حياتي هُنا، زنزانةٌ كالقبر، وأنين المساجين يلف المكان، وتمتات التشفير تعج بالمكان كأنها نغمة موسيقية لبيتهوفن قلقة،لا تعرف الإستقرار كروحةِ الثائرة!

كان سيرجي هو السجان الوحيد الذي لم يكن كأقرانه،يبدو أنه كان متأثراً بشيء ما،لم أعرف كُهنه بعد!

في ربيع ١٩١٧ ومع اشتعال سعار الحرب، افتقدت سجاني سيرجي، فلما أتو بالطعام، سالت ساجني: " اين سيرجي؟" ضحك وقال:" مسجون في الزنزانة المقابلة لك!"

 ما هذا البلد الذي نحن فيه؟ إما جنود تحارب وإما مساجين في السجون؟ منذ الرتل الذي اخذنا، ولم أشاهد مواطناً عادياً، إما مجند أو مسجون!

حينها كانت هيلين قد وجدت سكناً مناسباً في سانت بطرسبرغ، وقد جهزته لآلبيرت، ووضعت في غرفة المعيشة طاولة وكرسي عزاز بجانب عدة الغليون الخاصة به بجانب منفضة السجائر.

 اثثت كل شيء فيها، حتى الغرفة التي بدت كصالة عرض تركتها، وتركت اشتراك الجرائد اليومية ساري،كان آلبيرت قد التقى جوالاً

جاب الإمبراطورية الروسية، وهو الذي اقترح عليهما ترك القرم، والذهاب للعاصمة، بعيداً عن رحى الحرب، وفي العمق هناك، بجانب الجامعة، حيث يستطيع التمتع بكل الامكانيات كباحث مستقل دونما قلق من المخابرات التي تبحث عن مواطني المحور، وقد نصحه أن لا يغادر المنزل كثيرا،

- "لم؟"

 - "لان الاضطرابات مشتعلة في العاصمة يا آلبيرت، نحن نريد الخروج من هذه الحرب، ولعل الاضطرابات هناك تجبز الزار علي الخروج منها"

 - "هل تتنبأ بثورة يا أليكس؟ أنا لا يهني شيء الا رؤيتها!"

 - "أرجو لك ذلك!" 

- وإذا برجل كأنه الفرعون ترتدي النظارات وقبعة، يلقي التحية علينا،

وقال:" المعذرة، ولكني أريد مكسيم قليلاً!" ابتعداه عن آلبيرت قليلاً وهو يشرب فنجان القهوة، وشاهدهما يتهامسا، ثم اعطى لأليكس، اوراقاً، دعاه لشرب فنجان قهوة، امتنع بتلطف قائلا: "لا استطيع، فاني انتظر موعد لقطار ما قادم من برلين، المعذرة"

 - "كما تشاء يا ليون"

 ثم تركهما وانصرف

سأله:" من هذا؟ ولم يناديك بهذا الاسم؟"

قال له: "هذا ليون تروتسكي أحد الأشخاص المقربين لفلاديمير لينين، أما الإسم فهذا اسم شهرتي مكسيم جورجي، لا أعطي اسمي الحقيقي الا لمن لا اخشى شرهم، وأنت بعد ليس لك علاقة بكل هذا"

-" أتدري أني عرفت هذا المدعو فلاديمير عندما كنت بالجامعة في زيوريخ، كانت يعكف على كتب كارل ماركس، وكان يبدي اعتراضاً على شياء كثيرة حينها"

ضحك وقال:"خُلقنا لنعترض"

قطع الحديث وصول هيلين لتأخذه لأخر زيارة للطبيب لفك غرز الجراحة بعد ضربة ذلك الجندي، فتركا الطاولة على أمل اللقيا!

عندها اخبر هيلين بفكرة الرجل، وهي رحبت، لا تريد له العودة إلى برلين او زيوريخ، لعله يجد سلوى عن فقد العائلة القصري.

المسكينة،لم تعلم أنه كلما رأى قطاراً لمعت عينيه،وعند المحطات تذكر هذا الألم،وهي مهما حاولت فهم ذلك الحادث القديم،لم تجد له بين ثنايا حديثه إجابة.

لكنهما الأن هُناك.

نزلت من العلّية، ووجدته، يقلب في الصناديق، ثم أخرج علبة كمان، ونفخ الغبار الذي عليها، وفتحها واخرجه، وبدأ بالعزف لباخ مقطوعته الثالثة، عندما رأته منهمكا في عزفها، علمت أن نهار سيدها رائق ومزاجه عليل كهواء هذا اليوم، فمشت مشي الهوينا للمطبخ، تعد فنجاناً من القهوة، له، وهي معه، وعندما اقتربت انتشلت وردتين من الأصيص ووضعتهما مع الفناجين في طبق التقديم، ودخلت عليه وهو يدور حول نفسه منتشياً وتكاد أوتار الكمان تتقطع، فمتلأ وجهها الباسم فرحة من فرط الطرب، لكن المسكينة، انها في غمرة فرحها اغمضت عينيها فارتطمت به وهو يدور وتناثر كل شيء…

-" اووه انا انا . هـ هل انت بخير؟ با لي من غبية، لااااا حتى الفنجان كسر،....."

أما آلبيرت فشاهد أحدى الوردتين سليمة، فنفض بها الغبار عن قميصه ومدها لها حمراء، فتوقفت امام يديه كساعة صدئة، لكنه اقتحم وقتها وقال:" هل لك، وبقية الكعك هُناك على المنظدة، لم الجزع؟" وعلق الوردة على يمين رأسها فوق اذنها اليمنى، وهي كالمشلولة.

قام واخذ الكمان، واستكمل العزف، وكان يكمل وهو يمشي حتى جلس عند منظدة الكعك ووضع رجليه فوق بعضهما، واشار لها أن تاني.

هيلين قامت لكنها عادت للعلية وهي مسرعة حتى سقطت من فوق اذنها اليمنى هذه الوردة، وصعدت، وهو دخل في موجة ضحك من عذوبة الموقف وكأن هذه اللحظة جعلت ليومه لمسه فتّانه.

"منذ أن دخل نوفمبر، وجدته منقبصاً، بالرغم من سعادته مؤخراً ومزاجه العالي، مع قرب الاقتران، إلا انه منقبض، ولا أدري ما يشغله، فلم يعد يخبرني بما يدور في ذهنه وداخل نفسه، يا لهفي عليه، لم أتوقع أني سأتاثر على حاله يوماً ما، لكن الأجواء العاصفة تذكرني به"

هيلين تقول وهي تنظر لآلبرت

كان لا يهدأ،أو لا يريد أن يهدأ،وفي كل لحظة أو تصرف ينظر للساعة، وكانها هي التي تُهديه السكينة بالرغم من رناتها المزعجة وسط هذه الأجواء الباردة،لم يمكن يتكلم كثيرا،ولم يبدي أي امتعاض،ولا أي رغبة أخرى،فقط: تدخين الغليون وشرب القهوة ومتابعة الأخبار،حتى عادت هيلين ذات يوم من المكتبة!

"أنظر!" قالت هيلين.

"وجدت هذا المصنف مهملاً مرمياً ليس على أي رف، وكلا يمر بجانبه ولا ينظر إليه، ولكن لأنه بالإنجليزية جذبني الحنين إليه، وعندما نظرت له، عرفت أن هذا المصنف مهمل كصاحبه، منسياً من الناس، منسياً من الزمن!"

"أرينيه!" قال آلبيرت.

"من جاي فوكس هذا؟"

"إنجليزي كاثوليكي حارب مع الإسبان ضد البروتستانت في حرب المستعمرات الشهيرة، قلت لنفسي لعلها تخرجك من هذا الذي أنت فيه!"

لم يقل شيئاً وبدأ بتصفع المصنف، وبعد ساعة سمعته يناديها: "هلا احضرتي كعكاً مع الشاي؟ أريدها أجواء إنجليزية كاملة!"

"نجحت!" هيلين قالت بصوت خافت!

لم تمر هذه الأيام، حتى أنهى المصنف، لم يخرج يوماً واحداً خارجاً حتى لشراع تبغه المفضل، كان يرسل هيلين لذلك، حتى كان الخامس من نوفمبر في الساعة الثامنة صباحاً، فتح النافذة التي اشرقت على إعلان لإحياء افتتاحية ١٨١٢ تشايكوفسكي وهي احدى الليالي التي تحتفل فيها الإمبراطورية بمناسبة فشل الغزو الفرنسي عليها، إبان حملة نابليون بونابرت عليها، إذ أن في مثل هذه الأيام، عبر نهر بيريزينا في أخر محاولة له للبقاء في روسيا قبل ان يعود نهائياً لباريس.

طلب منها أن يحجز له ولها تذكرتين لحظور هذه الليلة، من باب محاولة الخروج من قتامة الأيام التي كان ينتظر فيها

"الزُهرة آتٍ لا محالة في ليلة السابع،دعينا نروح عن أنفسنا قليلاً، فالشكر لك على كل هذا، أنتِ كُنتِ مؤنسي الوحيد" ثم مد لها آلبيرت النقود لتذهب لشراء التذكرتين لهما لهذه الليلة.

أخذتها وهي تقول لنفسها:"لم شعرت في داخلي وكأنه حديث مودع! لعلي بدأت أدخل في ذات القتامة التي خرج منها!"

لبس قبعته كعادته مائلةٌ،وأغلق أحد أزرار معطفه الصوفي كحلي اللون مائل السواد، وأشعل غليونه، ممسكاً به بيده اليمنى،وقوس يديه اليسرى لسكرتيرته هيلين، وهي تحمل حقيبة عدة الغليون، ودخلا القاعة،لشرفه في العلية، وهي فرحة بسيدها وإن كان بداخلها ذاك التساول!

كانت ليلة تشايكوفسكية بإمتياز! 

خرجا سعيدين وهما عند الباب، اذا صوت صفير الشرطة يدوي، والمكان صاخب رغم تاخر الوقت، وكانت الجلبة تعم المكان حتى أرتطم به رجل فاسقط قبعته وتوارى خلف الجموع، أخذت هيلين القبعة ونفظتها وألبسته إياها، لكنه أمالها لليسار،وعندما التفت يبجث عمن أرتطم به، وجهه مألوفا يقول له بإصبعه: أششش!

كانت الشرطة تبحث عن أقلية تُرمّز لنفسها أنها أكثرية، تحوم حولهم شائعات كثيرة، لكن لشخص كآلبيرت غير مهتم، عنده المهم أن يقضي الشاعات الثقيلة في اختفاء وبحث، فهو لا يريد العودة ويمكث مكوث القط الخائف حتى تنتهي غايته، دائما يردد لهيلين:"جيد أننا نجونا وعين الرقيب غافلة عننا"


هناك في كازان، عند الرقيب، دخل الجند على كل من كان في العنبر، وحملوهم وقد غطيت وجوهنا معهم،في عربة سوداء كان اخر شيء رايناه قبل ان تغطى وجوهنا،ثم سارت بنا العربة أيام، لا تتوقف الا لتغيير الاحصنة،واعطائنا ما يبقينا على قيد الحياة،حتى وجدنا أنفسنا في مكان يبدو من ضجيجه كساحة عامة!

أُنزلنا عنوة، وصراخهم يجلجل في آذاننا،كان الموقف مهيباً صوت السلاح وقرع احذية الجند على الأرضية الحجرية،وبردٌ قارسٌ وصوت تجمعات الناس، وصوت ريح ينبئ بجو ماطر كئيب!

خُلعت اغطيتنا،فبدت لنا ساحة حمراء كالدم فيها بناء سوره مُحمر كشاهد كبير على الحدث!

اصطف الجند امامنا وبنادقهم معهم، مر أمامنا ضابط، أدى التحية، ثم رفع اعلاناً وشرع يقول:

"كُل المتهمين مدانون بالسعي للإطاحة بنطامنا الإمبراطوري المقدس، وقد حكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص، في الساعة الواحدة ظهراً اليوم الخامس من نوفمبر ١٩١٧م"

خيم الصمت، لأن كل شيء يدفعك للذهول، حتى من أراد أن ينتحب لم يستطع! 

تقدم أحد الكهنة يقرأ بلسانه الثقيل الشعائر الأخيرة، وهو لا يفرق بين مللنا، وكأن الكل هُنا من ملته، رفع الجنود بنادقهم، ورفع الضابط سيفه، وكانت لمعته هي آخر ما رأيناه قبل أن تُعاد تغطية وجوهنا، هل هذه المغامرة الجنونية ستنتهي بحياتنا هُنا؟ هل خروجنا مع صديق لموازته انتهت هكذا؟

ثم هبت ريحٌ باردةٌ لمع معها سوط الرعد برقاً وأذ بعربه تقف في وسط الساعة يصرخ منها رجل يتكلم بصوتٍ عالٍ ثم سمعنا طلق النار وتوقف كل شيء فجأة!

ساد هدوء ثم هطل المطر غزيراً، وسحبت أقنعة وجوهنا منا، كان الرصاص قد أطلق في الهواء، وكان هذا القادم من المحكمة يحمل أمراً بوقف الإعدام

إيذانا بأمر الزار القاضي بعودة كل من كان قادما من الإمبراطورية الألمانية قبيل الحرب بالعودة، فهم لا علاقة لهم بذلك اللعين القادم منها رئيس حزب الأكثرية الأقلية في أعينهم.

الكل طفق يتحسس نفسه انه باقٍ ينظر لبعضه، وأنأ في غمرة بحثي عن صاحبي، وجد الجند يسحبون معهم ميتاً وهم يرتحلون! 

كان سيرجي هو القتيل المسجى، والوحيد الذي استثني من العفو، كان مارقاً في نظر قاتله، لكنه فارساً في نظر من تلقفوا جثته!

آه! الشيء الوحيد الذي كان جميلاً في ذلك السجن القاتم كأنه حلم الخروج قد أغتيل!

كأحلام كثيرون مروا معنا في الحكاية.

علمت حين رأيته أني أُولد من جديد، وبذات الذهول!

وكأني أسمع الناي يبكي، عندما شعرت في قرارة نفسي أني أولد من جديد، وأنا انظر لسجاني المسجى وعليه عجوز ثكلى، وقلُب إمرأةٍ مفطورٌ لا يدري لأي جهة يلوح ليبكي!

وكأني أسمع الناي يبكي، حنينٌ يكوي الظلوع، هُنا فقط، ولا غيره معي!

وكأني أسمع الناي يبكي، لروحي المتعبة التي لا تعرف أي قدرٍ او عاصفة ألقت بها في هذا الجحيم البارد، برق وريح هادرة، كأنها روح تريد أن تستقر!

وكأني أسمع الناي يبكي، لشيء يفيض ولا يجد إناء يفيض فيه ليحتويه، وهذه الروح ليست زجاجة ولا حتى قدح، كوعاء مثقوب لم يجد صانعاً له!

وكأني أسمع الناي يبكي، لهذا الألم الذي لن يندمل، لن يموت!

وكيف يموت وقد غدت صورة الموتى الباكين على موتاهم ماثلة، لمن وهبت له الحياة، هنا فقط تتجدد في عينيك كل المعاني!.

وكأني أسمع الناي يبكي…

وكأني أسمع الناي يبكي…

وجدت نفسي مدفوعاً أن أربت على العجوز الباكية، وكأن الذي مان علي عزيز قريب، قد كان سجاني وإن كان لطيفاً معي، يظل سجين الظلم مما أحسنت إليه تراك ظالماً، كانت رحلة مواساة لصديق مر بمأساة، زوج خذلته وسرقت منه سعادته: العائلة!

وهنا عائلة مزقتها أحجار الرحى في ليلة كانت كفوهة التنور!

لفيتهم خلفي وأنا أموج، سقط الثلج الأبيض ليسدل الستار، وفي داخلي نار تتأجج، ولم يأتي أحد ليتدفأ، سرت على غير هُدى، مطرقاً، واجماً، مسبلاً يداي، حتى نهاية الطريق الذي بدأ كأنه الهاوية!

اتتني طفلة صغيرة، ورفعت يديها لي، فقد غرفت بهما الماء لأشرب!

"اشكرك!"

شعرت الآن فقط بالحياة!

طفقت ابحث عن اي ساعي يرسل رسالتي بالحمام الهادي في هذا الجو العاصف!

لا هم لي بعد ان استعدت حياتي الا ان اطمئن على آلبيرت، كأني أم فقطت رضيعها، هذا الصاحب الذي بعد رحيل القطار دخل في ثوبه القاتم وإن أبدى فرحاً، الحياة التي تُعاش مرة، تستحق أن تجرب كل ما فيها

وجد ساعي بريد يلتقد الرسائل بعصى آخرهت دبوس، وكأنه يلتقد قمامة، هذه الرسائل فيها من اللوعة والاشتياق والحسرة والفرحة تلتقط هكذا كأجساد الشهداء، رسائل صرعى كأصحابها، لعلها تجد سبيلاً لمن صدرت إليهم، او أنها مثل رسائل البحر، لا يتلقفها الا سارح مهموم يجد هماً ملقى عند شاطئه

ناديته، وقلت "أعطني قلماً"

 وبيدي التي ترتعش من البرد كتبت ما كتبت، ثم قلت له: "اثقب يدي لادمغ الرسالة!"

 "هل انت جاد يا سيدي؟"

 "افعل!" صرخت في وجهه!

 ودمغتها وتركتها معه وقلت دعها معك متأكد أنه سيبحث يوماً عن رسالة!

هناك في سانت بطرسبرغ كأنه لمح رجلاً قصيراً اصلعاً بين الجموع يعرفه، لكن لم يظن مطلقاً أنه هو الذي كان يدرس المحاماة في زيورخ، لكن هيلين اجتذبته لتعود له للفندق، كان هذا اليوم أبى الا أن ينتهي شؤماً

"لنعد، تذكر ما قاله لك آليكس، الإضرابات في العاصمة كثيرة"

كان السابع من نوفمبر ١٩١٧م تاريخاً لا ينسى من هذه الحكاية التي عبرنا فيها جميعاً.

 نزل آلبيرت ليبتاع تبغه الأثير يريد التدخين قبل الذهاب لمرصد الجامعة فاليوم هو اليوم الموعود، ليلاً وهو في الطريق شاهد سيلاً أحمراً من الرجال، عيونهم كالصقور، ويطلقون لمقرات الحكومة المركزية،

يقودهم ذلك الذي لمحه مطارداً

 "فلاديمير!" صاح بصوته آلبيرت! 

لكن الحرس الإمبراطوري كان في مرصاد هذا الجيش الأحمر، مستعداً لهذا السيل، أنه الموت بحضوره الطاغي المخيف يصوغ المشهد، فإما الزار وإما لينين!

 هرع الناس في كل اتجاه، كلاً يريد سلامة من موت محقق!

ارتطم بالناس وسقطت قبعته التي لا يعرف كيف يرتديها، وفي غمرة هذا الضياع، كانت تلك المسكينة بقدرها، قد راعها ما حصل فنزلت تبحث عنه، لكن ما ان رفعت يدها عندما رأته يدور حول ذاته، ويلملم شتات غليونه المهشم،

 -"هنا يا سيدي!"

 ما إن إلتفت لها، وشعره الأشعث قد خر مع جسده عالأرض.

الكل هنا الآن صار كالهشيم، إما مع الحمر أو البيض، إما هي جحضت علينيها وفتحت فمها للصراخ لكن الصوت احتبس! 

وكان صوتها قتل مع هذا الذي كانت جل أمنياته فقط أن يرى لمعان الزُهرة في آخر لياليه! 

رمت كل ما في يديها، وخلعت نعليها وركضت كالثكلى إليه وهي ترتطم مع المئات، لا صوت يبلغ المعنى

ولا حركة مسيطر عليها، ولا تجد سبيلاً لكي تعبر فيه إلا بحركات المحب الذي حيل بينه وبين حبيبه، حثت عنده وهو ينتفض، تمسح عن جبينه العرق، ولا قول يواسيها، وهو يغرغر في دمه قال لها: 

"لعلم ارسلوا رسالة،هم في مكان قريب،ابحثي بالبريد عن اي شيء باسمي...ثم سعل وقال لا تنسي لمعته حين تريه"

كان الستار قد اسدل على كل شيء.... 

اجتاح البلاشفة العاصمة، وفي طريقهم إلى موسكو،

 وكانت بداية صفحة حمراء جديدة على هذه الصفحة البيضاء، 

دخان المعركة يلف الأفق، وأصوات النحيب تملأ المكان، إلا من واحدة فقدت نحيبها!

 هل كان كل هذا يستحق هذا الثمن؟

كأني بسنين عمره الماضي قد انتفضت بين يدي! 

جاء وجيء بي، لا ليعزف لي، ولكن ليرسل بقايا ذلك الحنين أنغاماً نفقت أمامي كما ينفق البعير!

 آمال ذهبت في مهب الريح، ورغبةٌ خفيةٌ لاقتناص كوكبٍ بعيد! هذا الرحيل كحنينه الذي تكتوي له الضلوع!

 أي حرقة هي التي أذهبت كل ما فينا جميعاً؟

هذا العمل المرهق الذي وكلت به!

 استأجرني عاصفٌ كهذه الحرب واختفى كأنه شبح هذا المكان القاتم كقتامة ما غور أروحنا،يا إلهي عجيبة كيف أني الآن عندما فقدت صوتي صارت رغبتي بالكلام جامحة كحصان أندلسي لا يريد الفرار! 

أطول مسافات العمر ماتت بين يدي،وقبعته المضحكة ارتمت في حضن الغريب!

ليتني لم أقبل طلب العمل هذا!

 عملٌ تعيسٌ أكلني وجعلني أبحث أنا الآن عن شيء أجد فيه سلواي من لوعتي؟

 وعلى أي شيء كانت؟

 كُنت مجرد عاملة!

 سكرتيرة!

 أترجم المقالات وأجمع الصحف وأرتب أثر العاصف الذي جمعني به! 

آآآآه ليته هو الآن بيننا

كل حديث النفس هذا هاجس رددته هيلين وهي في طريقها لمركز البريد!

 عند الباب طرقت وانزلت ركبتيها تبكي، أي حال لها وهي الفقيدة التي لا تدري أي شيء تبكي عليه؟

 على من ودعت ام صوتها الذي اختفى أو عملها الذي فقدته 

جائها بشربة ماء وقال:"إلى الداخل يا سيدتي!"

اشارت أنها لا تريد الا العودة للنزل، ولو أن رسالة كانت قد عنوت لآلبيرت!

 سلمت له ورقه فيها كل التفاصيل التي تريد وعنوان المكان، وطلبت منه عربة تقلها وسط ركام الخارج الصاخب منظراً الهامس صوتاً.

 وعادت وهي كالعمياء المبصرة تتحسس حتى الأصوات!

نامت نوم الأسير لم يوقضها الا طرق الباب!

 فتحت الباب:" ساعي البريد يا سيدتي! رسالتين!" فحيته برأسها وأغلقت الباب، وقلبت الرسالتين وجدت احدها مدموغة والأخرى لا!

 هشمن دمغتها وفتحت لتقرأ:

 "آلبيرت... آلبيرت، هذه الحياة في هذا المكان لا تتوقف، كتنور يفور تحته بركان نشط، أهرب أهرب...هذه الرغبة الجامحة لديك كانها نزوة فاجرة! تستطيع أن ترى لمعان الكوكب في ليلة أخرى، اقول لك وأنا الناجي كأني مذهول من المذهولين الذين وصفهم دوستويفسكي. 

عد!

 تلك النذلة الذي سرقت منك أسرتك لا تستحق أن تستذكرها في اللحظة الأولى التي عرفتها فيها، ميلفا هي التي بعثرت كل هذا داخلك

آلبريت اسمعني، انت تخدع نفسك، هذا كله محاولة هروب منك جعلتنا أسرى، فكن أنت الوحيد الحر الذي يستطيع أن يبقي فينا أملاَ بالعودة، قد مهرت رسالتي لك بدمي، فلا تجعله يضيع هباء! 

لا تأتي إلى هُنا نحن آتون إليك، فقط أبرق لنا لنعرف مكانك" 

أي مكان وقد صارت كل الأرض قبره، إينما إلتفت رأيته! 

فتحت الرسالة الثانية، لم يكن فيها ختمٌ ولا دمغة، جاء فيها: "أنت لا تتحمل خسارة جديدة يا آلبريت،أمكث في المكان الذي انت فيه، لا تحدث أحداً ولا تخرج،وأجعل هيلين تأتيك بحاجياتك،نحن هُنا نجونا من موت محقق، عدا سجاننا السابق الذي أردي قتيلاً، فقط لأنه كان يعكف على رسائل ليون تروتسكي"

ظهرت عليها ابتسامة جميلة وهي تشهق وتمسح دمعتها تقول: "عاش آلبيرت ومات وأنا لا أعرف اسم هذا الكرية، عرفته من خطه! إإإييييي ليتهم هُنا يواسوني"

٩ نوفمبر ١٩١٧م 

موسكو

 ليلاً قبل منتصف الليل…

 كنت في المستشفى استجمع ما بقي من قواي، لا أعرف اين نيلس، لكن المكان مريح وهادئ،، 

فجأة سمعنا قرع خطوات خيل، وصهيل حصان نفق وعربة انقلبت! 

قمت من سريري متثاقلاً وأنا اسمع صوت رجل يقول لعياله: "هيا اسرعوا اسرعوا"

 التفت يسارا تجاه الساحة، فإذا برجل بدت عليه آثار القتال ذو سن، يجر معه اربعه خيول، يقول لهذا الناجي من العربة: 

"بسرعة يا سيدي، وسالحق بكم"

 وعندما صعدت آخر فتاة في حجر أبيها وهو يرفعها له، اذا نسمع صوت صوت ابواق عميقة في جوف المدى، ومعها دق طبل طفيف كأنه ارتاد لصداه! 

كلاَ ذهل من الصوت، وتوقف ينظر

التفت يساري تجاه الصوت عند مدخل المدينة، بدت كأنها غيمةٌ سوداء، ومع هذه الأبواق العميقة وصدى الطبول، تقدمت فرس سريعة كانت ان تزلق فوق حجر المدينة المرصوف، ثم عدل من وقفتها، ورفع سيفاً امام انفه:

تقدم من وسط الظلمة رجلاً قصيراً لكن قصره متناسب مع طوله، له شعر اسود كثيف وشارب مميز، كان يرتدي جاكيت أبيض وبنطال أسود مميزين، أدى له الفارس التحية، وهو لبس قبعته وابستم ساخراً وهو ينظر للعربة المنقلبة!

 في وسط هذا المشهد المهول امسك الرجل ابنته وقال للرجل الذي رفعها له:

 "امتطي الحصان الذي خلفي، هذا الجورجي جوزيف جوغاشفيلي قد وصل، بسرعة"

 وانطلقا وسط الساحة

ارتدى هذا الذي دخل من الظلمة قفازيه، ونقر بأصابعيه كأنه ينادي جرواً وأشار لساحة البلد، فاستحالت الغيمة السوداء لجموع بشرية مرصوفة تتقدمهم هذه الأبواق والطبول يعلو صوتها شيئاً فشيئاً إيذاناً منهم بدخول المدينة!

 وكأنه دخول أحد القياصرة الفاتحين!

كأنت موسكو هي جائزتهم التي قطفوها كأنها ثمرة ناضجة حان حصادها.

 كنت في شرفة المستشفى مذهولاً، كانت العساكر تنتشر في المدينة انتشار النار في الهشيم، يطوقون كل شيء فيها.

 دخل علي طبيبي ويقف خلفه أحد الجنود:

 -"من هم؟" 

ذكر له الطبيب اسماؤنا، ثم دفعه وخرج!

كان الهدف حصر كل الناس الذين لا يحملون أوراق ثبوتية تخص الإمبراطورية السابقة لعودتهم لبلادهم، وفعلاً ما إن أتى الصباح حتى جُمعنا جميعاً عند محطة القطار خارج المدينة، ننتظر القاطرة التي ستنقلنا عائدين، هل هذه الرحلة تنتهي هُنا حقاً؟ 

كان النهار هادئ وبارد في آن، وتجنعنا مدهوشين

لا ندري متى يحين الرحيل، وللأمانة، هذا أول رحيل قسري أُسعد به، ولا هم لي الآن إلا أن أعود!

 لكني لا أدرى أي ارض حملت نيلس،ارجو ان يكون ممن سيرحلون معنا

 -سيدتي، ألا تعلمين لأين؟ 

-الى القطار يا سيدي!

 -اعلم لكن إلى أين؟ 

-إلى القطار!

 -لا تعلمين الوجهة؟ 

-ليس مهما المهم أن نركب القطار!

كان الانتظار عجيب، ثلج اختلط بطين الارض، عند محطة قديمة، وجموع الناس تنتظر عند خط السكة، وداخل المقطورات القديمة، قد خلقنا من هذا العدم محطة انتظار! 

ايييه ههه فقط لو كان آلبيرت هُنا، لتقلبت شجواه؛ الغبي يريد أن يري الزُهرة لأن أول لقياه بميلفا كان في ليلة ظناه أنه بدرههما،

لكنه كان محاقا وذلك البدر الصغير هو الزُهرة، هو يريد أن يقتل تلك اللحظة في داخله، حتى ينهي كل ارتباط للأبد مع الماضي، لكن الماضي هو الحاضر الغائب دوما!

 لا أريد هذا الانتظار يطول، مكاناً فقط لنتفقد البريد!

 -احييه هذا الجو باردٌ ومشمس في آن، نستدفئ من البرد!

وكيف نستدفئ من البرد ونستبرد من الدفء؟

 أي لُغزٍ هذا الذي نحمله نحن الغرباء عند هذه السكة الساخنة، نشعر اننا مرتوين ولا ندري مم؟ 

لعله رغبة العودة للحياة هي التي لم تعد تشعرنا بالظمأ!

 ننتظر اللحظة التي نسمع فيها صافرة القطار الذي سقلنا، وفعلاً مسامعنا لم تكذب الخبر 

ولكن ما ان اقترب القطار، وكانت اعناقهم مشرئبة تجاهه، تعلوا رقابهم لتنظر للمخلوق الاسطوري الذي سنقلهم، حتى من من جانبهم ينثر عليهم الثلج الممزوج بالطين وهو يصفز نكاية فيهم وامعاناً في السخرية منهم!

 قد تجاوزنا القطار؟

 هل بهذا إنتهت أعمارُنا؟ ولا عودة مبعث جديد؟

 جلست في زاوية، وتذكرت أول وصولنا إلى هذه الأراضي وتذكرت أول أغنية سمعتها مع آلبريت ونليس في محطة القطار ونحن نأكل البيروشكي

في هذه الأثناء، خرج من وسط المقطورة المتوقفة، أشعث الشكل أغبراً،يسأل بصوته المميز"هل مع أحد لفائف تبغ؟"

 إلتفت والضحكة تملأ وجهي"نيلس!" 

كأن الأحمق كأنه في سوق شعبية يبدل قصص نيكولاي جوجول بلفائف التبغ،بزعمه أنه يحرق لحظة خير من أن يحرق روحا في قراءته! الساخر كان يرتديي معطفا ممزقا

- كيف لم أعرف أنك معنا؟

 - لم يجمعونا سوية، منذ ذلك اليوم، وقد تركتني وأنت تشرب من يدي ابنه سيرجي المسكين، ذهبت مسرعاً وأبرقت لآلبيرت أن لا يتحرك من مكانه،كي لا يصيبه مكروه فلما عدت لم أجدك، لكني قدرت أيضاً أنك في المستشفى تتعافى، فذهبت أبحث عن طريقة للخروج، لكني بت الليالي في نزل

لكن بعد دخول الجورجي للمدينة ليلا وسيطرت خيوطه على أطراف المدينة وانبعاث رائحة الموت في كل مكان، تمشى حتى بلغ منتصف الساحة تماما معلنا تنحية القيصر وتولية قيصر جديد: فلاديمير لينين!

 دخل هذا الأخير وهو مرفوعاً على أكتاف الناس يمنيهم ويعدهم ويعلن أول أول ما سيصنع انسحابهم من الحرب!

كانت هيئتي الرثة ساعدتني أن اختلط بالجموع، لكن ما إن أنهى كلمته حتى صرخت باسمه، أكرره على مسمعه، اناديه مناداه العارف به، لكن اجتذبتي شخص يشبهه، لكن أقل حدة منه في المظهر، قال: "ما تريد؟"

قلت:"صاحبي زميل دراسة له، أريد أعرف أن كان قد التقيا"

قال:"صفهُ لي!"

قلت: نحيلاً ليس بالطول المميز، لكن تلحطه، أشعث الشعر ذو شارب متسق مع ملامح وجهه البيضاء، في نهاية عقده الخامس، لا يعرف كيف يرتدي قبعته، يحب أن يميلها... 

وما إذ ذكرت القبعة حتى قال رجل بجانبه: اسمه آلبيرت؟

 قلت: بلى!

 قال: هل معه سيدة انجليزية متأنقة كأنها معاونة له؟

 قلت: بلى!

قال: كنت نصحتهما بالذهاب لسانت بطرسبرغ حيث مرصد الجامعة هُناك، كان يردد شيئاً عن متابعة أحد الكواكب، الا تتذكر يا ليون؟

 رد عليه: اظن ذلك يا مكسيم! 

قلت: قد استديتما لي أجل خدمة!

 وتركت المكان، لكن حتى صدر قرار الترحيل، وكانوا يظنوني عامل مناجم فحم، وها أنا عندك!

- هههههه أنت لوحدك حكاية!

 - لفافة تبغ؟

 - هات! 

- كيف سنشعلها؟

 - بسيطة! من حرارة اللحظة! 

- فضحكنا وتبادلنا الحديث على أمل أن لا يتجاوزنا القطار التالي!

حل الشتاء وكان الثلج غزير،كان يلج في خلدهم انه اذا بقي على هذا النحو سيتجمد الناس

 هُناك كانت هيلين تعد الحقائب،وتعيد ترتيب الغرف،وكأنها تنتظر زوارا

 نزلت للطرقات تستجمع الاخبار،يبدو أن البلاد مقبله على تغيير جديد،يبدو أنهم اعطوها اسما جديدا "الإتحاد السوفييتي" 

وسينسحبون من الحرب!

نزلنا واستأجرنا عربة لوسط سانت بطرسبرغ، كان كل شيء يبدو كما لو كانت المدينة حصان يجفل في وسط ساحة القتال أن لا يخوض غمارها.

 صحيح ان الناس منخرطون في يومياتهم، لكن لا احد يبذو عليه مخايل انه يريد الحديث، الكل يبدو مدهوشاً 

نحن أيضا مدهوشين منذهلين من شكل المدينة، وكأن شيئا بها تغير

سألنا أحد المارة:

 "أين نُزل هيرميتاج؟" 

رد: "لم يعد كذلك، صار متحفاً يا سيدي، لكن على العموم ستجده في وسط لينينغراد"

 التفت على نيلس وقلت:"لينينغراد؟!"

 قال الرجل:"أجل يا سيدي، مسقط راسه على ما يقال والمدينة التي تحمل اسم المؤسس الذي انقذنا"

 قلنا:"وانقذكم ايضاً!" 

تركنا وتوجهنا لهناك

عند باب المتحف علقت لوحة:

 "ممنوع الزيارة"

 ولوحة عند الناصية تقول: 

"المكان تحت إعادة الإنشاء"

 فتشنا عن مكان نجلس فيه فلم نجد امامنا الا طاولة عندها نادلة صهباء قد قطع وجهها حب الشباب،في نهارٍ باردٍ كأنه الليل،جلسنا عندها وطلبنا فنجاني قهوة

 "هل من شيءٍ آخر يا سادة؟"

 "جريدة الصباح!"

في الجريدة صور لما حدث في الأيام الغابرة، وتعليقات صحفيي الثورة عليها، وكان يقرأها نيلس بصوت عالٍ وهو يرفع فنجان قهوته، لكن ما ان التفت للصفحة الثانية حتى هوى الفنجان منه!

 "ما بك؟" 

"تمعن بالصورة هذه؟ أليست قبعة آلبيرت؟"

 "هذا طالعٌ سيء!"

 "قم لنبحث عن هيلين!"

في غمرة بحثهم عن أقرب نزل من هذا المكان القريب من الجامعة، صاروا يسألون عن إمرأة تحمل انجليزية تحمل أشباه هندية شقراء كأن شعرها ستار الذهب، فدلهم عليه أعمى، سألته:"كيف عرفت لونه وأنت ضرير؟"

 قال: "ليس اللون عرفت، بل انسداله كستارة نوافذ غرف الأزواج، فقد كان يتدفق"

 اعطيناه مما معنا

في تلك الليلة التي بدت كأنها موحشة، بينما كانت تومئ تريد أن تغفو، فجأة جاء دق على الباب، "هل يبدو أنه زائر ماء؟ هل أتو؟ كيف لي أن أعرف؟"

 ودق.. دق.. دق..

 "وظلت مدهوشة أريد أن أسأل لكني لا استطيع" 

الطارق: من أنتِ؟ هيلين؟

لكن هيلين كانت في الشقة تنتظرهم يعودون، ولم تجد لهذا الوقت لتسجيته الا القراءة، فنزلت لمكتبة الجامعة تستعير كتاباً ما، فقال لها أمينُها:

 عمّ يتحدث هذا الكتاب؟

 فأشارت له انها تريد ورقة وقلم لكي تتحدث له، مد لها ما طلبت وكتبت: 

"كتاب مذكرات،أحب أن أقرأ السير والمذكرات الشخصية"

فسألها عن السبب فقالت على الورقة:

 "أحب دوماً أن أشعر أن هنالك حياة واقعية! ولكن لأني نادراً ما أهتم لكاتب،فتجدني أمل مما اقرأ..."

 تملين؟ - قال لها.

 كتبت "هل قابلت فتاة أحلامك من قبل؟ وشعرت أنك قد وصلت؟ الأمر ذاته مع كل شيء! عندما نقرأ فنحن نبحث عن شيء فريد،لكن بالتأكيد لا نجده"

وماذا لو وجدته؟ - باغتها بالسؤال

 كتبت - وقد لمعت عينيها -

 "عندها ستنقلب حياتنا، أنا حصل لي ذلك، وجدت رجلاً ألقى بظلاله على بقيتهم، عرفت فوراً أن سيرته معي هي ما أبحث عنه، ومن بعد رحيله صرت أتحدث كتابة، وصارت قصتي رواية، رحل عنها البطل باكراً" 

قال: "لم يكن ثمة قارئ قبلك،سأنسخه لك!

خرجت من المكتبة، ليشدها منظر احد المتسولين، لكن احدهم يشبه متشرد تشابلن الصغير، ويجلس معهم ثلاثة اطفال، مفترشين الرصيف بمعاطفهم، أحدهم يلف لفائف التبغ، والاخر يغلي ابريق الشاي على الأرض، والصبية يلعبون حولهم، بدا المنظر مضحكا لجميع المارة، يظنون انه مشهد هزلي لاحد المتجولين

لكن عندما اقتربت وامعنت النظر فيهم، تبينتهم، حتى في وسط حالهم الكسيف هذا ما زال يشرب الشاي استقراطياً، والثاني يدخن السجائر وهو يحاول جمع بقية الأخبار، ركضت اليهم وهي تحمل الدمع معها، ركضت كمها عرفت يقيناً أُمها، 

ركضت..

 وطار شالها

 وسقط منها الكتاب

 وصرخت بلا صوت

 فالتفت لها وقلت:

هيلين!... هل تريدينه بحليب ايتها الإنجليزية الغبية؟ - مع ابتسامة غامرة اعترتني - 

لكنها تعلقت بي تعلق طفلة بأبيها، وطفقت تضربني على كتفي وراسي وهي تضحك وتبكي معاً، وانا احاول انزالها عني لكنها تتمسك بي اكثر، مستمرة بضربي، والاطفال حولي كسناجب أو قنادس النهر ينظرون باستعجاب علينا

انزلتها واجلستها وهي تسمح دموع فرحها، واحضر لها بطانية وضعها على كتفيها، وقدمت لها شاي ساخن،وجلس الصبية حولها يلعبون بشعرها، وعندما استجمعت قواها،واشارت للجريدة التي يحملها نيلس، لتكتب عليها قولها:

"آسفة لقلوبكم أيها الأصدقاء، لكن هذا البعد قد كواني بناره، وبنار البين هُدَّ كياني

لم تكونوا معي عندما رأيته يخر صريعاً، وقد اختنق صوتي، وكان يقول: كنت فاشلاً بعد كل هذا، ولم أسبب لكم غير المتاعب، وهذه النار التي في داخلي لم تدفئ أحداً، والذي يفهمني رحل، وبقيتي والدافع لي سُرِقَ مني.

خر صريعاً وسرق صوتي معه، لكنه ولم يبقى لهذه الحياة أي معنى فروحها قد رحلت!

سادت لحظة صمت داخلي ببرود جوف الإنسان المصاحب لبرودة المكان، وجمود للمشاعر، وكل ذلك الحُطام الذي في الداخل يصمت!

فما كان مني الا ان وضعت كأس الشاي على الأرض، وجذبتها لاسفل صدري - كانت راكعة على ركبتيها - وربت علي كتفها وهي تبكي، قلت: الانهيار هذا لا تسعة كلمة، ولا يواسيه الا صديق

لكن آلبيرت أورثنا هذا،ليست مأساة الرحلة خلف رغبته بإماتت كل ذكرياته القديمة،لكن في أننا عرفنا أخيراً إلى أي مدى كنا نحتاج أن نكون بالقرب ممكن يحتاجون إلينا - وجعلتها تنظر إلّي - ونعم هو لم يكن يحري خلف ذلك القطار الا كي لا يبكي حسرة،ولكن نحن نرث له ثأره، وقد نُجّينا من موتٍ مُحقق

- هلا احتسيتم الشاي وسكتم لكي نتفرغ لإسكات هولاء الاطفال المتطلبين؟ 

- هيييه! اسكت! وكأن لا شيء يعنيك هُنا!قلبي ينفطر عليها وعليهم.

 ... ومر عابر سبيل رأى انهم كومة بشر متجمعين حول بوميل مشعل نار عليه ابريق شاي فقال:

 "اترغبون بغطاء لهؤلاء الأطفال؟او للبكماء؟أو لكما؟ بطانية؟إحرام؟"

انت بائع؟ - قلت له

 قال: لا عامل نظافة اجمع البطانيات التي تلقى على المحكومين، لا ادري يا سيدي لكني قدرت انكم تحتاجونها!

 - محكومين؟ - قال نيلس باستغراب! 

قال: نعم محكمة الثورة المتجولة، انتظر انهم هناك عند ذلك الضرير، ذلك النائب العام، والقاضي بينهم، وتلك هي المدعية، و..

 - الشقراء؟

قلنا سوية ونحن ننظر لبعضنا: أهي هي؟

 قال الرجل، لهذا من قرابة اليومين تقول ان لها اطفالا اخذوا منها عنوة، وتريد استعادتهم باسم الثورة العادلة، والان يا سيدي تريد بطانية؟

 - دع ثلاثة أغطية وانصرف!

 ..

 والان ماذا نفعل؟ - نيلس يسأل

 قلت له: لا شيء!

 - لا شيء!

 - نعم لا شيء، واغلِ الإبريق!

الاول من يناير ١٩١٨م

 صباحاً

 أتت المحكمة الثورية!

 نصبت طاولة عريضة جلس القاضي في منتصفها، وحولنا وضعوا الواح خشب كانها قضبان،

 وعلى زاوية يسارنا وضعت منضدة النائب العام،

 والعكسر محيط، 

والجموع كالعادة اتت فقط للفرجة، من التالي، بطانية من ستؤخذ، وكان بينهم هذا العامل وكانه يتلهف لها

صدى صوت بعيد....

 "بدأت المحكمة"

 القاضي: باسم الشعب افتتحنا الجلسة،،

 المدعى عليهم نيلس و... محب الشاي!

 قال نيلس: الشاي الانجليزي!

 القاضي: صحح يا حاجب! الشاي الإنجليزي!

 اسمك؟ - اشار إلّي

 قلت: انا اسمي محب الشاي! 

النائب قال: الانجليزي يا سيدي! 

القاضي: الانجليزي!

 اكتب يا حاجب:

بما ان الحكاية ليس فيها اسمه، تكتفي المحكمة بلقب محب الشاي! 

نيلس: الانجليزي!

 النائب: انجليزي! 

الحاجب: انجليزي؟

 القاضي: اه الانجليزي!

 عمرك: انا عمري من عمر هذه الرحلة التي ورثني اياها صديقي! عملك: راوية! 

الدعوى!

 وتقدم النائب العام ليلقى نصها…

مولانا القاضي،يا سيفَ عدلٍ مسلطٍ فوق رقاب العُصاة، يا شمساً تضيء بنور حق القانون الذي الذي أشرق به منقذنا،يا من يريح خواطر هذه الجموع،وباسمهم افتتحت الجلسة!

ولهذا هنالك حق عام وخاص على هؤلاء الموتورين،الذين اختطفوا أبناء هذه السيدة الصربية المسكينة،ميلفا، بدعوى أنهم أولى بهم منها

القاضي:ما تقولون؟ 

نحن! - تحدثوا واشارت لهم

 القاضي: فليتحث الراوية باسمكم، ما تقولون؟

 - لم نخطفهم!

 القاضي:المدعية!

 المدعية: طرقوا الباب يظنونني إمراة يعرفونها،فلما فتحت عرفني هذا الذي كان يتكلم،وسألني عن هدف وجودي،فاخبرته ان الاولاد يرغبون برؤية ابيهم،ولهذا اتيت بناء على رسالة منه

وكان قد ارسل لي أن آتي الى هنا قبل نوفمبر العام الماضي، قائلاً لم يكن لك الحق أخذ الأولاد، ومددتها لهم، قرأها بحنق، ثم دفعني وأخذوا الأطفال مني عنوة وافترشوا الطرقات، وهرعت إليكم لتنصفوني.

القاضي: لم فعلتم؟

- كان يقول دوماً "لم يكن عليها ان تسرق مني عائلتي، وقد قال كذلك

ولم نكن حينها نعلم انه ميت، لكن رأينا من واجبنا أن نحقق لصابنا ما يطلب، عائلته!

مااااات - صرخت ملفا! 

- آلآن تبكينه وقد كنت أنت السبب في كل هذا!

 - اصمت! لم استطيع تحمل هذه الحياة القاسية التي كان يفرضها، وكان جل وقته مقسم بين العمل المكتبي، وساحة المدينة، لم نكن نطلب الا حضوره

- ايتها البلهاء! وتظنين انه كان سعيد بهذا، كان يبدي لنا امتعاضه من هذه الحياة ايضا، اذ ان كل وقته منصرف لرفاه العائلة واذا عاد لم يجد سُكنى الا من صخب تعبرين به لوماً وتقريعاً،....

القاضي: سكوت! اي حديث مبذول خارج اطار هذه المحاكمة سيعاقب صاحبه بالحبس!

اين الشهود؟

- شهود؟

القاضي: من أنتم؟

- الشهود!

القاضي: لكن أسمائكم ليست مدونة! فقط متشرد اغطية المعدومين، وحارس البناء، والمتشرد الأعمى!

والاعمى أيضاً - قال نيلس!

- ولكن نحن نرغب بالشهادة!

الادعاء العام: لا ضير في حال توافقت الشهادات على متن واحد!

القاضي: تقدموا بالشهادة! 

الشهود: اتو كاستقراطيين لمقهى مقابل البناء وصعدوا بعد سؤال الأعمى الذي أفاد بسُكنى شقراء في هذه البناء لا تشبه هذه البكماء في شيء الا في ذلك اللون،ثم لبثوا ما لبثوا من وقت عندها، وخرجوا ومعهم هؤلاء الأطفال كأنهم مشردين حتى اتتهم البكماء وكانت وكنتم وكنا.

القاضي: وتقر يا حارس البناء؟

أقر!

القاضي: بم تدفع؟

- بلى، عندما اطلت من طرف الباب عرفت انها مليفا، ليس لاني رأيت مقلة عينيها المتأرجحة رهبة، ولكن لأني سمعت صوت هانز وادوارد، فعلمت انها هي، فصرخت في وجهها لانها هي سبب كل هذه الحكاية والرحلة المرهقة.

القاضي: تقر اذا!

- نعم، لكن ليس بدافع الاختطاف والحرمان، وانما نحن نرث ارثه ونحن اولى الناس بمن خلّف خلفه، وكنا حينها لم نرى هيلين ولم نكن نعلم انه قُتل!

والان زاد اصراري برعايتهم، فأم كهذه الام تأتي لأرض حرب معها أطفالها ليست لديها اهلية الرعاية!

ميلفا: اقد تبعثرت كل التناهيد في داخلي...

- اذا كنت انت تقولين هذا فما نقوله نحن؟ خسرنا كل الأشياء من اعمارنا وارواحنا وليتنا تحصلنا على شيء واحد يتيم نُسهد به، فقط محاولة فاشلة لاستعادة شيء من ذكرى قديمة!

صوت المطرقة جلجل المكان المفتوح!

القاضي: النيابة العامة؟

النائب العام: حضرت القاضي، حضرات الشغب الموقر، الدوافع هي الأساس، ثأر قديم أو انتقام لجرم متوارث، او مسألة قديمة لم تتم تسويتها، وعليه هم وضعوا انفسهم في مرتبة متساوية مع طليقها الهالك، وعليه القضية فيها من التفاصيل ما يستحق ان يقال وان ما لا يقال، لكن دوافعهم هذه فيها تمرد خفي لنكث الجراح المندملة، وعليه لابد على المحكمة أن تحكم عليهم بجد، وتربيهم!

- أنحن في محكمة أم أصلاحية؟!

القاضي: أصمت!

حكمة المحكمة حضورياً حكماً نافذاً غير قابل للنقض، أن يتم جلاء الراوية للجولاك، وكل من شاركة في هذا الجرم، والبقية يتم ترحيلهم مع الأفواج المطرودة، ويعاد الأولاد لأمهم!

"ها نحن اضعنا آلبريت مرتين يا نيلس"

"هيلين اسمعيني: احتفظي بما تبقى من هذا هُنا وأنتي تعودين لمنزلنا القديم في برلين، سأكتب لك العنوان في هذه الورقة، وأروي هذه القصة لكل من ستشاهدينه، لبتقى الجراح مشتعلة، وأنا سآخذ حزني وحزنك وأرحل مغلفاً اياهم بالذكريات، ودعي معك هذه، يومياتي عندما افترقنا، ضميها مع ما بقي معك من بقية البقية، واكتبيها كانها قصف الرعود على المحيط الشاسع، ولا تقلقي، إن لم أرجع، سترجع لك الذكرى يا هيلين"

" نيلس هل ستأتي معي؟ "

" وهل عندي خيار؟ "

والتف الجند وقيدوهم، تشبثت هيلين بهم، ولكن القاضي طلب منهم ان يبعدوها وان يحضر هؤلاء الغجر، للعربة!

نفض منه يديها واسدلها، ومسح على رأسها وتركهاوهي تمسح عينيها، وكانت تنظر اليهما وهما يصعدان العربة والطفلين ينظران اليهما، وبدأت العربة تختفي في صفحة الافق الممتد وعندها ارعدت السماء مؤذنة بهطول المطر ليغسل ما بقي من ركام هذا المكان المبعثر.

وقد كان، كل شيء بدأ يرتفع من هذا المكان وكأن شيئاً لم يكن، ورأيت ميلفا تصعد مع الأولاد، عائدة، كل شيء بدأ يعود بعد توقف المطر، كانت نهاية آخر ساعات النهار الطويل الممتد، لم تكن تعرف إلى أين إلا من طيف ذكرى قوله: "منزلنا القديم في ببرلين"

وبدأت تشعر أنه لشيء شاق أنها تعرف وجهتها لكن في ذات الوقت لا مكان تذهب إليه!

هل أنا الآن في عزلة؟ وحيدة؟ كل شيء قد ابتعد حقاً واصبعت في مكاني الخانق لوحدي بلا صوت يُردد!

ولكن لابد لي من استجمع قواي، لكن الراحة من يوم مضني ضرورية. 

عادت للنزل الذي كانت فيه وجمعت حاجياتها، ومن داخل جورب قديم معلق عند النافذة الشرقية اخرجت منه مائة روبل، ومن ثم دخلت في نوم عميق طيلة اليوم.

عندما استيقظت تحهزت بعدة السفر، وارتدت قبعة آلبيرت السوداء، وأمالتها قليلاً، ونزلت لتطلب أجرة تقلها لمحطة القطار. 

- الوجهة؟

- برلين!

وصعدت المقصورة كمهاجر يبحث عن ميلاد جديد!

فيديو

كان القطار يعبر الكثبان الجليدية وبخار الماء المتصاعد، والاجواء الملبدة، كان يخرج من هذا المكان خروج الجنين من رحم امه، لينقطع اي ارتباط بها الا من رابطة دم تجمعهم، كان للدم دم آلبيرت الذي سال، ورقاقه الذين اختفوا داخل قتامة اللحظة ولم يعد ترون على مد البصر، دخلت هيلين في حالة استرخاء لتفكر بعدها في فتح هذه اليوميات التي بين يديها لتقع عينيها عليه عندما قال بُعيد نجاته من الاعدام:

"الشيء الوحيد الذي كان جميلاً في ذلك السجن القاتم كأنه حلم الخروج قد أغتيل!

كأحلام كثيرون مروا معنا في الحكاية.

علمت حين رأيته أني أُولد من جديد، وبذات الذهول"

دخلت هيلين في نوبة بكاء تحاول كتمها، حتى دخل مفتش التذاكر فبدأ بتهدئتها وتقديم عصير الليمون لها حتى تهدأ... 

وما ان هدأت حتى طلبت ورقة وقلم، لتكتب له:

" انا لا اتحدث الا هكذا، فقدت صوتي في حادث مؤسف، فترفق بي حتى أصل"

فاومى براسه وصار لها كالقرين يخلص لها حاجياتها طوال رحلة الألف ميل هذه

في اليوم التالي شرفت على مدخل المدينة المنهزمة، والناس تريد تغيير الحزب الحاكم الحالي، والصحف والمنشورات السياسية تلقى في الشوارع والأزقة، ولكنها تتبعت الطريق حتى ذلك البناء القرميدي القديم، وصعدت الادوار ومعها الحقائب، والمذكرات، وجلست تتأمل الغرف:

بقايا من حقائب كاميرات وعدة تصوير تشبه ما كانت في ذلك الكوخ الذي تهشم

صحيفة بجانب فنجان شاي معنونة بـ "الامبراطور الالماني يعلن الحرب على الزار الروسي"

وبيانيو عليه نوته لباخ

وجدول رحلات القطار إلى القرم

لكنها جلست وقد ارتاحت من وعثاء الرحلة الطويلة، استحمت واسترخت، واشعلت سراجاً قديماً وجلست على الطاولة وفتحت المذكرات امامها، حتى تجمع اول الحكاية وما شهدته منها وما بقي منها، ثم بدأت تكتبها لتروى من جديد لمن سيشهدونها ليرونها من بعدها. 

كتبت:

" شاهده وهو يبكي وانحنى له تحية من شخص عظيم لهذا القطار الذي غادر برلين متجهاً إلى سويسرا.

لم يكن يعرف كيف يرتدي القبعة، ولا حتى تنظيم أي شيء يخصه،لكنه يستطيع فهم اي شيء منظم.

منذ أن تركني لكي يلحق القطار لعله يدركه وانا لا ادري اين ذهب.

لم يبرق لي ولم يراسلني

 لا زلت انتظر

 نسبياً.... كانت دونها بعدما عاد نيلس من اللحاق بآلبيرت عند محطة القطار، أراد ان يوثق اللحظة التي فزع فيها لرحيلها بعائلته.... "

وجلست في خضم هذا التدوين حتى طَلُعَ الصباح، فشعرت بالتعب، لكنها نزلت للدكان اسفل البناء القرميدي لتبتاع بن للقهوة، وعند المتجر، رأت رجلا اشعت الراس يرتدي قبعة سوداء مائلة يبتاع تبغ غليون، تملكها سعادة غامرة، وجذبته، لكنه دفعها وهو يضحك ويقول:" لعلك اخطأتي الرجل" فلما رأت وجهه، طلبت اي شيء لتكتب عليه، فناولها مسودة لمعادلات رياضية، وإعطائها قلما، فكتبت:

"انك تشبه رجل اعرفه، بدوت لي مألوفا جدا، ولك عادات تشبهه، اعتذر، كان يدعى آلبيرت!"

قال لها:" وهل يشبهني ايضا بالاسم؟!"

كتبت:"وانت أيضا تُدعى آلبيرت؟ "

رد:" آلبيرت آينشتاين!"

كتبت:" هل اعمل عندك؟ كنت أعمل عنده سكرتيره، لعلهت تكون اخر رغبة لو علموا انها عندي لشكروك لذلك؟! "

قال: لكن إيسا زوجتي تغنيني عن ذلك!

امعنت بالترجي فوافق، وقال لها:" لعلي احتاجك فب اتمام اوراقي للرحيل من برلين للولايات المتحدة، فهنا حتى المكان يلفظني بعد الحرب"

داخت في مكانها وهي واقفة فمسكها، وسألها ما بك؟

كتبت:" رحلة اخرى ومعك انت أيضاً، لعلها هي النهاية هذه المرة!" 


تمت

الأحد، 18 أكتوبر 2020

لينور

تنويه: "ما بين الاقواس مقتبس ممن الهمني هذا النص" 


لينور:

"مبتلة جدًا من البكاء رغم جفاف عيني .....لا أحد ينقذني ! من حولي موتى... أخوتي يغرقون معي قهرًا.
كنت أرغب بالرحيل ولم أكن استطيع تميز ماهية الرحيل؟ ...كنت أظنه الموت ولكن أصبح الرحيل من نزعة الحياة والاستسلام لاي الشطين يجرفني الموج الكبير؟"

- قد قلتيها يا لينور، لأي الشطين يجرفني الموج؟ 
حقيقة لا أعلم، لكني دوما أجد بين ثنايا كلماتك فراغات تستحق أن تُملى، وعندي لكل نقطة فيه تتمه!

لا أحد يبتل من البكاء حقيقة، لكنه إيذاناً بأن الساعة قد أزفت للاشتعال، لكن لا عود ثقاب يشعل هذه الحقول التي جففتها الشمس، فتظل تحت وطأتها تموت قهراً.
تظنين يا لينور أن الرحيل نجاة، لكنه مع الأسف هو دخول في دوامة جديدة من غرف الأبواب، ولا تحدين لها من ينزعك، حتى عمرو لا تسعفه ولا يدك معه! 

أظن أن هذا الموج الهادر يقترح أن تأخذين حزنك معك - وإن رحلتي - لأنه هو مخزون الغضب القاصف كالرعود ليعطيك خطوة باتساع الوجود ممتطية صهوة النشيد! 
نشيد غراب بو الذي حبسك داخل الصورة في بهو المنزل! 

"لقد قتلت فرحتي وشكرًا"

- هنالك دوماَ صباحٌ جديد وساعي بريد وبرتقال وليد! 

"مشاعر كره كبيرة لهذا المنزل وارغب بالرحيل"

- إلى أين؟ 

"ساعدني؟"

- خذي وجهك أولاً! 
أنتي لم تفقديه، لكنك احرقتي كل تلك الذكريات الملتهبة، كتلك الحقول التي جففتها الشمس،خذي وجهك وإن أردتي الرحيل فأرحلي، فما هو الا حزنك الذي يلتحف اناشيدك فيه، تبدينه للصغير الذي كبر يوما بين عينيك، وسيغفو بعد حين... 

" طفونا، لا الدفّةُ تدري أين؟ ولا أوتنابشتم، والمركبُ سكرانْ
 يا إينانا.. كيف نعودُ لأوروكَ، وقد دمّرها الطـــــــــــــــــوفانْ
تتهادى فينا اللجةُ تلو اللجة، شـــــطآنٌ تطوي شـــطآنْ
ما كنا نحسبُ أن المنفى سيطولُ، ورحلَنا لمْ تجنِ غيرَ الخســرانْ
فتعالي؛ يكنِ الشعرُ لنا وطناً، والحبُ، الناي، الكأسُ..
وما أجملها من أوطانْ"

- دعي عنك هذا، واتركي الغراب يطير من النافذة يا لينور، واحبسي ادجار الان بو في صورتك!