الجمعة، 19 مايو 2023

وقال أبو العباس: "وهذا من تكاذيب الأعراب"


قام أبو العباس وصلى الفجر وحيدا
وراح يبحث عن الرسائل

أبو العباس يقوم يصلي العصر وحيدا
ويعود يعود لرسائله

ثم تأتيه أم البنين، تمد ليديه فاكهة البرتقال، فيأخذها ويضعها على الطاولة، ويسألها: هل رأيتي عُمر؟

تعود أم البنين، ومعها وصيفاتها وخدمها، وقد جمعوا برتقال الحديقة، الى ساحة القصر، فتنثره وهي تبتسم، ويعيدون فرزه لأبي العباس، فهو يحب البرتقال!

- وجدت رسالتك؟
- ليس بعد!
- لكن أين عُمر؟
- ألم ترسله؟
- برسالة؟
- هو الرسول؟
- وأنتي أيضا!
- أيضا؟!
ولم تمضي سويعات الا وقد جاء!
- أبا العباس!
- أجلس أصلحك الله! قل لي كيف رأيت الناس؟
- .....، .....، ثم إن سرقسطة أغنى بلاد الأندلس، وحين يصيب القحط سائر الأندلس، تبقى سماؤها ماطرة، وأرضها ممرعة، وريع خراجها اضعاف المدن الأخرى، .....

....وانتقطعت هذه الحكاية بقولها: علشان كذا سموها بلد الوليد؟
تنهدت طويلا ثم قلت: لا يا بنت الحلال، مالها علاقة! انا كنت احاول اسوي لكم جو انهم ليش سموا بلد الوليد باسم الوليد بن عبدالملك! وعطيتها وضعية أنه ارسل عمر بن عبدالعزيز للأندس يشوف وش الأوضاع هناك، وأنه لقاهم مشرهين طويل العمر بديره باسمه!
- وهم صدق سوو كذا؟
- الظاهر، كذا تيمنا بعهده الميميون!
- وراك ما صار لك خلق؟
- لا بس بدا يقرصنا الجوع؟ نتغدا؟
- يلا!
.....
- بورفابور!
- سي!
- بايلا!
- سي!
وانصرف النادل!
- تدرين أن اسمها بالعربي بقية! يعني بقية الأكل!
- ليش؟
- لانهم كانوا يجمعون الباقي من اكل البيت ويطبخونه على بعضه! مع الوقت صار طبق معتمد، يقال ان الحكم بن هشام اول من أكلها!
- له دخل بالوليد؟
- من احفاد عيال اخوه!
- طيب ما تبي تكمل القصة؟ شكل لك خلق!
- يمكن اكمها بعدين!
- متى؟
- اذا طلع الصباح!
- ليش شهرزاد؟
- لا! شهريار!
- بايخة!

تمت



الاثنين، 15 مايو 2023

أغاني نيسان في فندق عائلي

نيسان هو شهر أبريل، وفي نيسان يحترف الناس حرفة مميزة، يستعدون لها استعدادا نفسيا ومعنويا وذهنيا، حرفة ليس كأي الحرف، يعيدون فيها تشكيل الأشياء!


ذكر أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ في كتابه الأوائل:

"أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، فقال الناس: "لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حُرفة الأدب""!!


فمن كهوف شرق هذه المدينة ومستنقعاتها أتيت، وأنا قد تملكت أهم مهارة، مهارة تحتاج تقنية عالية وذاكرة قوية وتبريرات جاهزة، ولهذا قد يبدو نيسان شهرا أليق بالأنثى، تلك الأنثى الجاهزة لإعادة تأثيث الموقف المراد الإطاحة به! هذه المهارة هي مهارة الكذب! ونيسان شهر الكذب، شهر قائم على الاحتفاء بكل هذه الكذبات، ولا تكتمل حرفة الأدب التي أودت بذلك الخليفة المسكين الا بهذه الكذيبات المرمية هنا وهناك، ولهذا يقول الشعراء مالا يفعلون!

ولهذا قد يكون الكذب هنا فضيلة! فضيلة غير متوقعة! كغيوم تشردها الرياح فتظهر ما يختبئ منها فيها، ويغسله لك المطر!


وهذا هو كان الحال مع هذه المدينة التي أتيتها من شرقها، كانت عروس الشمال، قلب أقليم الباسك، المطلة على الأطلسي، سان سباستيان!


كانت يوم الوصول هادئ، كيوم صيفي شكسبيري، إنما أكثر هدوءا وحلاوة! ملبدة بالغيوم لكن لم تذهب ألونها ولا ضياء شمسها، ولم تكتنفها عُتمة! مدينة جبلية ساحلية، لا سهل ولا استواء، كانها حبة خالٍ على وجنتي حسناء أندلسية بيضاء الوجة حالكة الشعر، كغمام المدينة!


ومضيت كاني عازف ناي يستمر في عزف النوتة، من ذلك الطريق الذي ترك الجبال على يمينه، وبقية المدينة عن يساره، يتشارك في رسم ملامح الطبيعة ضوء اشارات المرور للمشاة أو السيارات!


حتى وصلت لذلك الكوخ، على الأقل هكذا بدا لي، وكانت المطر الخفيف بدأ يرسم ملامح السمفونية الجديدة، نازلا يكمل تفاصيل المدينة، مع النهر الممتد وسط المدينة ليصب في الأطلسي!

المهم أن هذا الكوخ، أن حُقَّ لي تسميته بذلك، كان مسورا بالاشجار، كأنه تاج أغريقي.

أوقفت سيارتي ونزلنا، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف ظهرا، حاملين حقائبنا، وما أن دخلنا حتى خيل إلينا أن كل أهل البلد هنا، جلسنا ننتظر موظفة الاستقبال لنسجل دخولنا، تنظرنا نصف ساعة تقريبا، حتى جاء موظف كان يقف خلف طاولة المقهى الداخلي وقال لي: سيدي، هذا مفتاح العرفة، ادخلوا، نوارا ليست هنا، لا أعلم إلى أين ذهبت، ولكن هذوا قسطا من الراحة، ثم انزلوا واكملوا بقية الإجراءات!

- هل انت زميل لها؟

- ‏أنا أخوها!

- ‏أخاها!

- ‏نيرو، يا سيدي!

- ‏الامبراطور؟

فضحكنا وقال: أن تردت أن تشرب شيئا يريحك من السفر، أخبرني!

فتركته وصعدنا إلى غرفتنا، كانت تطل مباشرة على الجبل الذي قسمه الطريق بيننا وبينه، وتحته ملعب الحي لكرة القدم، وفي نهاية الطريق هنالك حضانة أطفال مقابلها مقهى صغير!



-- بعد الاستحمام --



- تبون ننزل؟

- ‏ما ريحنا!

- ‏الي يسمعكم قاطعين جادة!

- ‏يا ابن الحلال!

- ‏طيب، سوو شاهي لين أخلص من التشييك معهم تحت!

ونزلت للاستقبال، وجدت المدينة مجسدة فيها، كأنها صورة محمولة من متحف الذكريات، صوتها وهي ترحب مخنوق كأنه صوت قطة ابتلعت صوفا، أكمل تلك الصورة وجها طفوليا لا يشيخ، ينسدل خلفها شعرها الأسود حتى نهاية العنق، واذنين لم يفتق فيها مكانا للأقراط، وقد تلاعب بوجنتيها جدري الماء، وما أن شرحت شروط المكان وأوقات الافطار وما شابه، أشارت إلى خرائط خلفها وقالت:

- أتريد واحدة؟

- ‏ماهي؟

- ‏خريطة المدينة!

- ‏أعتقد أن خرائط جوجل تكفيني!

- ‏أنت وما ترى!

هنا جاء اخيها بفنجان قهوة أمريكانو ووضعه على الطاولة وقال: على حسابي!

قلت: أنتم عائلة؟

ردت: بلى، هذا فندق عائلي، جدي أتى من استورياس وسكن المدينة، بعد نهاية عهد دكتاتورية فرانكو، وأسس هذا الفندق في هذا المكان بعد وفاة والدتي!

- هو جدك لأمك إذا!

- ‏أجل، واستمرينا نحن، وللأمانة فأن الموضوع ممتع ومسلي في آن!

- ‏وهذه الأسماء؟ من أين اصلها؟

- ‏لا أدري، أبي كان يقول أنها اسماء لاتينية، وأن أصل الأسره، اسرته هو، حتى الجد التاسع، أيطالي، ولكن لا تدري، مع هذا التاريخ الطويل العريض الممتد في اسبانيا لا تستطيع ان تستبعد أي شيء! على كل حال، هل ترغب بايصال؟

- ‏ارسليه على البريد الالكتروني!

- لك ذلك!


وما إن أنهيت قهوتي حتى خرجنا، حاملين مظلاتنا، ونبحث عن كافيه نبتاع منه قهوة الطريق حتى المحطة التالية!

لكن كل ما وجدناه سياح فرنسيين افسدوا المشهد مع الغربان أيضا!

فكان أهون ألف مرة ان نكمل المسير على أن نتوقف هنا للتزود بوقود الموتورين، ومضينا حتى انتهى ذلك الشارع عند مصب النهر في المحيط!

قطعنا الإشارة لينهي الطريق عن مقهى عائلي أيضا تديره أربعة اخوات متفاوتات بالعمر، عند مدخله نخلة باسقة ترحب بك!

- نأكل أم نرتاح قليلا؟

- ‏كلا الخيارين جيدة!

وما أن جائت احداهن، حتى قالت: آسفه! اختي الطباخة لم تأتي اليوم، ولهذا نحن نقدم المشروبات والحلويات فقط!

قلنا: قهوة إذا!

جلسنا، ثم قلت: لم لا نعود للفندق بعد المغيب، نتناول العشاء هناك؟

- قد سحرتك القطة!

- ‏نحن في اسبانيا وليس في المغرب!

- ‏حتى ذلك الحين، سنرى!

ما إن أنتهينا، حتى خرجنا نبحث عن قطارات المدينة، فهذه الشوارع لا تتجه إلا لمكان واحد: مصب النهر، قلنا لعل اتجاهات القطارات تتجه لمكان آخر!

فرصنا نتجه مع الطيور الى حيث المصب، وكأنها ليست طيوراً مهاجرة، قد ألفت هذا المكان ولا تريد أن تغادره!


وصلنا قرابة المغيب، توشك، اخرجت هاتفي، أبحث عن لحن يناسب اللحظة، لكني لم أجده في هاتفي، ولكن في ذاكرتي، لحنا قديما يعيدني لذلك الطنبور الذي كان يعزف عليه ذلك الخادم ألحانا لسيده كانها سحابة صيف، عابرة، لكنها تبقى بالذاكرة، بقاء ضوء القمر الذي بدأ يخجل تربيعا فوقنا، من فرط حبه بهذه المدينة.

- خل نرجع بردنا!

- ‏ايه وبدت ترش!

في الطريق مررنا بجانب الملعب، ووجدنا فريقين احدهم بطقم رياضي متكامل، والاخر يبدو انهم من ابناء الحي يقومون بالاحماء قليلا، توقفنا قليلا بجانب كشك لبيع المثلجات، مختارين نكهة القهوة والفستق، ثم طفقنا راجعين!


عندما دخلنا للمنزل، أقصد فندقنا الذي يبدو كالكوخ، كان الجو صاخبا قليلا، ولكن بشكل مبهج، وكأن رقصة فلامنكو شمالية تقام هناك، عندما دخلنا، رحبنا بنا، وقالا: اليوم مميز، لأنه يمر ٢٥ سنة على فندقنا هذا، ولهذا نحن نحتفل!

قلنا: وكل هؤلاء جيرانكم وليسوا نزلاء؟

قالا: أنتم الوحيدين النزلاء بيننا! وهما يضحكان بصوت عالي!

- نتعشى؟

- ‏نتعشى!

- ‏سنتعشى!

فجلسنا على طاولة رباعية الكراسي، كانت الأغنية التي تصدح فيها جو صاخب لا يليق بالمكان أو اللحظة، لكن بعد نصف ساعة تقريبا، تغيرت لموسيقى احتفالية بذكرى عروسين كانا من ضمن الحضور، ووضعا قطعة كعك صغيرة عليها شمعة حمراء على طاولتهما، ثم طلبنا منهما القيام برقصة لتتويج الليلة، جيران مع بعضهم، وبينهم روابط كثيرة، ثم قالت نوارا: من يقترح لنا اغنية؟

رفعت يدي وقلت: سأختار أغنية، قد لا تفهمون الكلمات، وليس بوسعي ترجمتها، لأني لست في مزاج مهيأ لذلك، ولكن الموسيقى كفيلة ان تصنع ليلتكما الخالدة!

فقالت تفضل!

فذهبت لهاتفها الموصول بسلك aux مع مكبرات الصوت، وأخترت أغنية زكي ناصيف "حلوة ويا نيالها" بحكم أننا في شمال اسبانيا، فشخص مثلي قادم من الشرق الأوسط، اخترت أغنية شمالية أيضا!

فلما شاهدهم ينطربون على الموسيقى، وقاما العروسين، قلت لنوارا: ضيفي هذه الوجبة للفاتورة!

وصعدنا للأعلى! نرتاح بعد هذا اليوم الطويل على أنعام الأغنية!



- ثم ماذا حدث؟ / "صوت أحد قراء هذه الكلمات!"

- ‏أترك الموضوع لخيالك النيساني، خصوصا أن كانت قد أصابتك حرفة الأدب عزيزي القارئ!


تمت

الأربعاء، 10 مايو 2023

برفقة موروماتشي!

- برد؟

- ‏على العكس!

- ‏شاي؟

- ‏أخضر؟

- ‏بالتأكيد!

ثم انتظرنا في حديقة بيير بوديس، بجانب بركة الضفادع المطلة على الحديقة الجافة!

بيير بوديس هذا هو رئيس بلدية مدينة تولوز الفرنسية، وهو منشئ هذه الحديقة كان ذلك في عام ١٩٨١م، لكن وما إن جاء الشاي الدافئ من مقهى "لو بيتي" حتى ناديت الناسك ليجلس بجانبي.

ثنى ساقية وجلس على ركبتيه، كما في جلوس ما بين السجدتين، ثم أخذ كأس الشاي الورقية بيدييه الاثنتين ورفعهما وقال: التأمل ممارسة تمر من قبل لآخر! ثم شرب الشاي!

كنا نحن نتحدث فيما بيننا كؤوسنا قد انتصفت!

ما إن انتهى، حتى طلبنا ثانيا، ثم التفت وقال لي: ألا يذكرك المكان بشيء؟

- ليت لي مثل ذكرياتك!

- ‏كيوتو!

- ‏اليابان! وهل تظن أن كان لي سبب أخر يدعوني لزيارة هذه المدينة الا ذكريات الشرق؟

- ‏وكيف ذاك؟

- ‏كان الدافع سلوك طريق الفاتحين حتى مدينة نيم، ولكن ما إن وصلت لأهم مدينة كانت مرتكز لهم في سيرهم الطويل، حتى عرفت أن المكان تحت الصيانة، كذلك وأنا على الطريق وجدت أن ممر رونسفال كان أيضا مغلق للصيانة، فلم يتبقى لي من الحكايات الشرقية الا هذه الحديقة اليابانية!

- ‏أتدري، لعل حالي أفضل من حالك قليلا، لعل وجودي هو نتيجة اتفاقيات توأمة المدن، فبيير الذي أعطى اسمه للحديقة، صبغ كل شيء في هذه المدينة بطابعه، وكأنه حاكم إقطاعي قديم، وكأن احد هذه الأشياء هو استجلابه لهذه الأشجار والفسائل من هناك إلى هنا، حتى يعطيك احساس أنك في احد الحدائق المحيطة بالسرادق الفضي أو الذهبي!

- ‏العائدان لفترة شوغونية أشيكاغا؟

- ‏بالضبط! ومن هنا اكتسبت اسمي: موروماتشي!

- ‏ولكن أليست هذه هي فترة الدخول الأوروبي إلى اليابان؟

- ‏بلى، وكان فرانسوا هو أكد أكبر المبشرين حينها، تحتاج أن تزور دير اليعاقبة هنا!

- ‏ولكنه تحت الصيانة أيضا!

- ‏اييييه لعلي احتاج أن ارتاح، المشكلة لا يوجد حمام جيد للاستحمام هنا!

- ‏نسيت أننا في فرنسا! يببدو أن لديهم ثأر شخصي مع الحمامات!

- ‏لهذا نحن نكره فرنسا!

- ‏كما قال أحدهم، تريد أن تكون أوروبا بخير؟ أمسح فرنسا!

ضحك وقام، وأومأ برأسه، لم التفت ناحية بحيرة الضفادع، ثم ضم راحتي كفيه تجاه أنفه واغمض عينيه وقال: شوجين ريوري! وقفز متحولا إلى ضفدع يقفز وينق مع هذه الضفادع!

كان مشهدا عجيبا ومضحكا في آن!

قمت من مكاني وأتجهت لمقهى "لو بيتي". فقلت لهما: هاه, هل حان وقت الطعام أم ماذا؟

قالتا: لعله وقت القهوة!

قلت لما لا, وطلبت النادلة واخترنا ما نريد، وعندما ذهبت ناديتها مجددا، قلت: هل بالامكان أن تغييري الاغنية؟

قالت: بالطبع، أي اغنية تريد؟

اخرجت هاتفي وكتبت اسم الاغنية والمطربة، قلت هذه، ولكن النسخة اليابانية منها!

فتبسمت النادلة وهي تستعجب!

وقد كان، ثلاثة فناجين من الاسبريسو وتراميسو مشترك!

كان اسم الاغنية: Poupée de cire, poupée de son (夢見るシャンソン人形) -  by France Gall - 1966



bon appétit

السبت، 6 مايو 2023

حدث ذات مرة في الغرب

 

بينما كان الليل يخيم علينا في اندورا، وسط الجبال التي تكتسي قممها بالثلوج، جعنا، فقلت لمن معي: أترغبون بالعشاء أو النوم؟ أنا نازل! وإن بدا الليل هادئ!


لبست معطفي، ونزلت أبحث عن أي مطعم قريب، يقدم وجبة محترمة، قابلة للأكل، حتى وجدت عند نهاية الشارع الذي تبدو نهاية كرأس مثلث، مطعما في الزاوية اليسرى، دخلت وصادفني نادل كأنه حارس شخصي، ذو ملامح أوروبية ليست صارخة، قال لي: اسبنيولا؟ فغونسي؟ رددت: انجليزيي!

فلما قدم إلي قائمة الطعام بالانجليزية، قلت له: لم تحديدا اخترت هذه اللغتين؟ أأنت فرنسي أو بلجيكي؟

قال لي: لا هذا ولا ذلك! أنا من هناك!

- من هناك!

- ‏نعم!

- ‏أين هناك؟

- ‏روسيا!

- ‏حقا! موسكو؟ سانتبطرسبيرغ؟ فولغوجراد؟

- ‏من الجنوب أكثر من هذا! وهو يضحك!

- ‏غروزني؟

- ‏هههههه أنا قوقازي!

- ‏السلام عليكم! ومددت يدي اصافحه!

- ‏رد المصافحة وهو يقول: وعليكم السلام ولكني لست مسلم، اسمي جون!

- ‏قلت صحيح، ليس اغلب القوقازيين الروس مسلمين مقارنة بالشيشانيين والتتار، ولكن مرحبا بك على كل حال فرصة سعيدة، اسمي رعد بالعربية المقابل الانجليزي له: Thunder

- ‏من أي البلاد أنت؟

- ‏من العربية السعودية!

- ‏هذا يفسر اهتمامك بالجنوب، البعد الديني!

- ‏البعد الديني وغيره!

- ‏حسنٌ، ماذا تريد أن تأكل؟

- ‏اترك الموضوع لك! لكني اريد طبقا بحريا خفيفا ولكن مختلف عن السائد!

- ‏عُلم!

بعد نصف ساعة احضر لي طبق حبّار مقلي بالملح! مع ان مظهر الطبق لا يوحي بذلك، كأنه البقسماط المعتاد!

المهم اني اخذت حلقة حبار وما ان وضعتها في فمي حتى انفجر ملح البحر من فرط تركيز النكهة ذكرني الطعم عندنا كنا نسبح في البحر صغارا ثم نشرب من ماءه بسبب الموج، تداخلت مع كل مضغة حتى البلع كل الذكريات التعيسة لشرب ماء البحر المالح اثناء السباحة فيه!

فلما انتهيت وانا ما استسغت الملح، حتى استقرت اللقمة في معدتي، ناديت جون: ما هذا؟

- ألم تقل دع الموضوع لي؟ هذا هو الموضوع! العادة يا سيدي أننا نتانوله نحن مع النبيذ الابيض، لكن مشكلتك انت انك مسلم! فقط! وهو يقهقه ضاحكا!

- ‏اها! قل هذا لفلاديمير الاول، هو الذي اختار الارثدوكسية على الاسلام، فقط لأنه يريد أن يظل سكرانا! وغمزت له

- ‏ظروف الرجل! تريد ماء؟

- ‏ما ظنك!

ذهب لجلب الماء، وعندما عاد وشربت منه قلت: لهذا يقولون ان القوقازيين مجانين!

تغير وجهه قليلا ولم تعجبه النكتة، ولكنه قال: هذه صورة نمطية!

قلت: بلى! لكن مطلقها ليس الامريكيين، انما الروس الأصليين! الشماليين!

فتهللت اساريره، فزدت وقلت: لهذا نحن في السعودية نحب التتر والشيشانيين والقوقازيين اكثر من السلاف، هنا تستطيع ان تقول بسبب الدين!

فضكنا جميعا ثم قال: لابد لي من أن أقدم لك شيئا على حسابي!

قلت: شاي مع سوكشا مُحلى بالعسل؟

- اااه! هذا مطعم اوروبي، وأنت تبحث عن اشياء شرقية جدا، أتدري، فنجان قهوة ربما؟

- ‏لا بأس!

أنهيت قهوتي، وعندما هممت بالخروج جاء ودعني وقال: لعلي أراك قريبا!

قلت له بالعربية: إن شاء الله! فضحك، ثم أكملت بالروسية فقلت: داسفيدانيا До свидания 

فرد بالمثل وهو يضحك.

قفلت راجعا والجو بدأ. يزداد برودة بعد منتصف الليل، فاخذت لقطة ختام وانا استمع الى Казачья - Cossack مع لقطة الختام للشارع الذي بدأت تزينه زخات المطر.



تمت

الخميس، 4 مايو 2023

..، وثم عبرنا البُرتات!


عندما قررت هذه الرحلة التي تتجاوز ٢٤٥ ميلاً باتجاه الشمال، خيل إليَّ السمح بن مالك الخولاني ومعه عبدالرحمن الغافقي يعبران هذه الجبال من برشلونة حتى لقي الرجل مصرعه شهيداً في سبيل الله في تولوز!


لسنوات وسنوات كنا نسكن في الروضة شرقي مدينة الرياض، خلف شارع عبدالرحمن الغافقي، اذ ان اسم الرجل كان دوما حاضرا في حياتي، اذ أن عبوري للطريق الحامل لاسمه ليل نهار، كانه رجما بالغيب، لعبور ذات الطريق الذي عبر منه غير مرة!


ولعل هواي الأُموي القديم التليد، عزز من بقاء اسم الرجل في الذاكرة، فحتى عند ارتحالنا عن الحي ظل طريقه اثيرا عندي، احرص كل الحرص العبور منه ومن خلاله لطرقات العاصمة المختلفة، كجزء من الحنين، للمكان، وللذاكرة!


في برشلونة، راودتني الفكرة، فكرة عبور البيرانييه، من داخل مكتبة، كان أمامي كتاب "عندما كنا عربا" كتاب أميليو غونثالث فيرين الأندلسي ابن اشبيلية، فتذكرت أن أول من عبر كان الحُر بن عبدالرحمن الثقفي، فقلت في نفسي: لأكن اسما رابعا بينهم، كما قال سميح القاسم:

سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا

سبيل الشهادة كان السبيلا

وشائت خطى عمرهم أن تسيلا

وشائت خطى عمرنا أن تسيرا 


فلم لا نتتبعها، أو ما حولها، وقد كان!

في صباح اليوم التالي نزلت من غرفتي لتناول الافطار في مطعم الفندق، كان الصباح باردا، ونصف المأكولات لا يمكن تناولها، فاكتفيت بكوب شاي وزبدة ومربى المشمش، كان كافيا للأمداد بالطاقة، وانطلقنا، وازدادت حرارة شمس الضحى قليلا، وبدأت الطريق تضيق، لكن تزداد وجهتنا للأعلى، وكلما ارتفعنا تتغير درجة الحرارة رغم ازدياد كثافة السحب، فنحن ما بين هواءٍ باردٍ وشمسٍ ساطعةٍ حانقة!

مع ازدياد وعورة الطريق، تزايد تكاثف الضباب حولنا، حتى بدأت اشعل اضاءة التنبية في السيارة للسيارات القادمة من الاتجاة الاخر او خلفي، كي تنتبه لي، وفي وسط هذا الضباب الذي يزداد كثافة، بدأ يخيل لي أني أسمع صوت صهيل بدلا من العصافير، ومعهم صوت حزين يعزف عودا على طريقة زرياب، وينادي تلك البلاد، ويريدها أن تنظر إليه من فوق هامات هذه الجبال.

انجلى الضباب من امامي كستارة مسرح، لتمتد أمامي طريق طويلة ضيقة ملتوية، تبدو قمم جبالها مُكساة بالثلوج، وأنا أقول لرفيقتي: أنظري! ذلك الفارس المتوج الذي يسير عكس طريقنا يريد النزول نحو الطريق التي جئنا منها، تاجه مميز من ذهب، وخيله أوروبية بامتياز، ما لبث ان ترائت لي محطة وقود تعمل فيها فتاة بملامح شرقية ذات شعر اسود تتحدث الفرنسية بلكنة باسيكية، توقفت قليلا، فسألتها إن كانت تتحدث الانجليزية، وعن المكان الذي نحن فيه؟ كأنه اشبه ببرزخ بين مكانين تختلف فيه الازمنة والأماكن!

قالت أن اسمها نورا، فسألتها عن منشأ الاسم، فقالت انه لا تيني، لكن أن كنت تعني مرور التاريخ في عروقي لا تستبعد، كل المنطقة هنا قد يكون لها جذور لا نعلمها، لكن لا تخبر أحدا اني قلت لك ذلك! وابتسمت وأمالت رأسها قليلا لليسار مع ميلان شلال شعرها، فانجلت بعض الغيوم ليظهر منها شعاع شمسٍ دافئ!

التفت خلفي فإذا بفارس عربي تبدو عليه ملامح الإمرة، مر بجانبي، ثم سأل؟ أرأيت قارله؟

قلت مه!

قال: قارله الكبير! الامبراطور الروماني!

قلت: اوليس فرنجيا؟

قال لي: هل أنت من اتباع الحسين بن يحيى الأنصاري؟

قلت: لا!

حينها فقط، التف ذلك الفرنجي صاحب التاج نحونا، لكن كلما اقترب، تتلاشى صورته داخل الضباب شيئا فشيئا حتى اختفى وهو يقول: رولاند!


اغمضت عيني من جديد وفتحتها، فاذا كل شيء عاد الى ما كان عليه قبل الرحلة، فقط احتاج الوقود، وزاد للطريق!

- أين تلك الباسيكية؟ سألت رفيقتي!

- أنتظر أنها هناك، داخل الدكان الصغير!

فدخلت، ثم قلت: كم تطلبين لقاء هذا يا نورا؟

فاشارت انها حوالي ثلاثة وثلاثين يورو، فتأكدت أن ما كان هو اشبه بحلم يقضة او شرود، لكن ما ان فتحت الباب، حتى رأيتها تلوح بيدها لي وتقول: صحبتك السلامة!

ذهلت، ولكن التفت خلفي لعلي ارى احدا ممن رايتهم في حلم اليقضة هذا، لكني لم ارى سوى الضباب!

اكملت طريقي بالسيارة وانا اتفكر بالذي حصل معي منذ قليل، ولكن ما هي لحظات حتى تلاشت كما يتلاشى الضباب.


استمريت بالمسير حتى دخلنا مدينة وسط الجبال، كما الحلم، وكأنها محطة عبور، توقفنا فيها لليلتين، ثم انطلقنا منها شمالا، لا نتوقف حتى نصل الى المكان الموعود: تولوز!


دخلنا المدينة من جنوبها الشرقي، اول الضحى، مستمرين في السير على طريق تغطيه الاشجار تتساقط منها ورقها بشكل يبدو وكأنه قصيدة يملؤها الشجن، لكن ما ان اقتربنا للنزل الذي سنبات فيه ليلتنا، خرجت لابحث عن موقف لسيارتي، قريب من المكان، وجدت موقفا قريبا من مجرى النهر، وعلى ظفته الاخرى آثار مقبرة!

حاولت أن اتعرف عليها، إن كانت أحد الوجهات التي علّمت عليها في الخريطة، لكن كلما اقتربت منها، ازدادت برودة الجو، والضباب.

تجاوزت السور الحديدي، كان صوت صرير الباب يوحي بالرهبة، فلما تقدمت، وجدت قبرا بلا شاهد، ومسوى بالارض، وسط بينها، والبقية على ما ألف أهل البلد، وجدت عنده رجل يجلس على ركبتيه أمامه، اعتم بعمة قد اكلتها الغبرة، رمى عذبتها خلفها، وبجانبه سيف مكسور ملقى، مُدارع، وان كان في درعه شقوق، من اثر الضرب عليها، حنطي اللون، تبين ذلك من يديه، لم اسمه منه الا كلمه: ارجو أن يتقبلك الله!

حاولت اقترب اكثر، لكني تعثرت بغصن شجرة اوقعني على الأرض، فلما رفعت رأسي، لم اتبين الرجل، كأنه ذهب!

فذهبت لذلك القبر الذي كان عنده، ولم اجد ما رأيت سوى دمنة، فقط غطتها الزهور، كأنها الطلل!

فقلت في نفسي: لعل ما رأيت في يقضتي هو توديع عبدالرحمن الغافقي للسمح الخولاني بعد استشهاده، كأني ارتحلت لهذا التاريخ مرتين، فلم يبقى من اوجه الارتحال الا أن اصادف نابليون بونابارت! فأكون قلبت كل صفحات تاريخ المنطقة!


قفلت عائدا مشيا إلى الفندق، بعدما انقشع كل شيء، وعند مدخل الفندق صادفت رجلا قصيرا به صلع يلبس بدلة زرقاء ببنطال ابيض ضيق، ففزعت!

 - أهو هو؟ أهو حلم جديد؟ أم هلوسة من المرتفعات؟ - قلت في نفسي -

فلما اقتربت منه قال لي بالفرنسية كلمات لم اتبين معناها، فلما اعادها بالانجليزية كانت: أمعك ولاعة؟

قلت: لا، لكن قد يكون مع عامل الفندق!

فدخلنا، فتبين بعد قليل أنه جاري في الغرفة المقابلة، التفت له وبابتسامة وكلي ثقة: لا تقل لي ايضا ان اسمك نابليون؟

رد قائلا: ايضا! اسمي آراميس! اتريد شيئا؟

فانسحبت بكل خجل لداخل غرفتي، وبدأت اعد حوض الاستحمام الدافئ للاسترخاء، ثم دخلت في حالة تأمل طويلة، انتجت هذه الاسطر!



Au revoir!