الاثنين، 15 مايو 2023

أغاني نيسان في فندق عائلي

نيسان هو شهر أبريل، وفي نيسان يحترف الناس حرفة مميزة، يستعدون لها استعدادا نفسيا ومعنويا وذهنيا، حرفة ليس كأي الحرف، يعيدون فيها تشكيل الأشياء!


ذكر أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395هـ في كتابه الأوائل:

"أنه لما بويع عبد الله بن المعتز بالخلافة سنة 296هـ، ولم يلبث فيها غير يوم وليلة ثم قُتِل، فقال الناس: "لم يكن به بأسٌ ولكن أدركته حُرفة الأدب""!!


فمن كهوف شرق هذه المدينة ومستنقعاتها أتيت، وأنا قد تملكت أهم مهارة، مهارة تحتاج تقنية عالية وذاكرة قوية وتبريرات جاهزة، ولهذا قد يبدو نيسان شهرا أليق بالأنثى، تلك الأنثى الجاهزة لإعادة تأثيث الموقف المراد الإطاحة به! هذه المهارة هي مهارة الكذب! ونيسان شهر الكذب، شهر قائم على الاحتفاء بكل هذه الكذبات، ولا تكتمل حرفة الأدب التي أودت بذلك الخليفة المسكين الا بهذه الكذيبات المرمية هنا وهناك، ولهذا يقول الشعراء مالا يفعلون!

ولهذا قد يكون الكذب هنا فضيلة! فضيلة غير متوقعة! كغيوم تشردها الرياح فتظهر ما يختبئ منها فيها، ويغسله لك المطر!


وهذا هو كان الحال مع هذه المدينة التي أتيتها من شرقها، كانت عروس الشمال، قلب أقليم الباسك، المطلة على الأطلسي، سان سباستيان!


كانت يوم الوصول هادئ، كيوم صيفي شكسبيري، إنما أكثر هدوءا وحلاوة! ملبدة بالغيوم لكن لم تذهب ألونها ولا ضياء شمسها، ولم تكتنفها عُتمة! مدينة جبلية ساحلية، لا سهل ولا استواء، كانها حبة خالٍ على وجنتي حسناء أندلسية بيضاء الوجة حالكة الشعر، كغمام المدينة!


ومضيت كاني عازف ناي يستمر في عزف النوتة، من ذلك الطريق الذي ترك الجبال على يمينه، وبقية المدينة عن يساره، يتشارك في رسم ملامح الطبيعة ضوء اشارات المرور للمشاة أو السيارات!


حتى وصلت لذلك الكوخ، على الأقل هكذا بدا لي، وكانت المطر الخفيف بدأ يرسم ملامح السمفونية الجديدة، نازلا يكمل تفاصيل المدينة، مع النهر الممتد وسط المدينة ليصب في الأطلسي!

المهم أن هذا الكوخ، أن حُقَّ لي تسميته بذلك، كان مسورا بالاشجار، كأنه تاج أغريقي.

أوقفت سيارتي ونزلنا، كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف ظهرا، حاملين حقائبنا، وما أن دخلنا حتى خيل إلينا أن كل أهل البلد هنا، جلسنا ننتظر موظفة الاستقبال لنسجل دخولنا، تنظرنا نصف ساعة تقريبا، حتى جاء موظف كان يقف خلف طاولة المقهى الداخلي وقال لي: سيدي، هذا مفتاح العرفة، ادخلوا، نوارا ليست هنا، لا أعلم إلى أين ذهبت، ولكن هذوا قسطا من الراحة، ثم انزلوا واكملوا بقية الإجراءات!

- هل انت زميل لها؟

- ‏أنا أخوها!

- ‏أخاها!

- ‏نيرو، يا سيدي!

- ‏الامبراطور؟

فضحكنا وقال: أن تردت أن تشرب شيئا يريحك من السفر، أخبرني!

فتركته وصعدنا إلى غرفتنا، كانت تطل مباشرة على الجبل الذي قسمه الطريق بيننا وبينه، وتحته ملعب الحي لكرة القدم، وفي نهاية الطريق هنالك حضانة أطفال مقابلها مقهى صغير!



-- بعد الاستحمام --



- تبون ننزل؟

- ‏ما ريحنا!

- ‏الي يسمعكم قاطعين جادة!

- ‏يا ابن الحلال!

- ‏طيب، سوو شاهي لين أخلص من التشييك معهم تحت!

ونزلت للاستقبال، وجدت المدينة مجسدة فيها، كأنها صورة محمولة من متحف الذكريات، صوتها وهي ترحب مخنوق كأنه صوت قطة ابتلعت صوفا، أكمل تلك الصورة وجها طفوليا لا يشيخ، ينسدل خلفها شعرها الأسود حتى نهاية العنق، واذنين لم يفتق فيها مكانا للأقراط، وقد تلاعب بوجنتيها جدري الماء، وما أن شرحت شروط المكان وأوقات الافطار وما شابه، أشارت إلى خرائط خلفها وقالت:

- أتريد واحدة؟

- ‏ماهي؟

- ‏خريطة المدينة!

- ‏أعتقد أن خرائط جوجل تكفيني!

- ‏أنت وما ترى!

هنا جاء اخيها بفنجان قهوة أمريكانو ووضعه على الطاولة وقال: على حسابي!

قلت: أنتم عائلة؟

ردت: بلى، هذا فندق عائلي، جدي أتى من استورياس وسكن المدينة، بعد نهاية عهد دكتاتورية فرانكو، وأسس هذا الفندق في هذا المكان بعد وفاة والدتي!

- هو جدك لأمك إذا!

- ‏أجل، واستمرينا نحن، وللأمانة فأن الموضوع ممتع ومسلي في آن!

- ‏وهذه الأسماء؟ من أين اصلها؟

- ‏لا أدري، أبي كان يقول أنها اسماء لاتينية، وأن أصل الأسره، اسرته هو، حتى الجد التاسع، أيطالي، ولكن لا تدري، مع هذا التاريخ الطويل العريض الممتد في اسبانيا لا تستطيع ان تستبعد أي شيء! على كل حال، هل ترغب بايصال؟

- ‏ارسليه على البريد الالكتروني!

- لك ذلك!


وما إن أنهيت قهوتي حتى خرجنا، حاملين مظلاتنا، ونبحث عن كافيه نبتاع منه قهوة الطريق حتى المحطة التالية!

لكن كل ما وجدناه سياح فرنسيين افسدوا المشهد مع الغربان أيضا!

فكان أهون ألف مرة ان نكمل المسير على أن نتوقف هنا للتزود بوقود الموتورين، ومضينا حتى انتهى ذلك الشارع عند مصب النهر في المحيط!

قطعنا الإشارة لينهي الطريق عن مقهى عائلي أيضا تديره أربعة اخوات متفاوتات بالعمر، عند مدخله نخلة باسقة ترحب بك!

- نأكل أم نرتاح قليلا؟

- ‏كلا الخيارين جيدة!

وما أن جائت احداهن، حتى قالت: آسفه! اختي الطباخة لم تأتي اليوم، ولهذا نحن نقدم المشروبات والحلويات فقط!

قلنا: قهوة إذا!

جلسنا، ثم قلت: لم لا نعود للفندق بعد المغيب، نتناول العشاء هناك؟

- قد سحرتك القطة!

- ‏نحن في اسبانيا وليس في المغرب!

- ‏حتى ذلك الحين، سنرى!

ما إن أنتهينا، حتى خرجنا نبحث عن قطارات المدينة، فهذه الشوارع لا تتجه إلا لمكان واحد: مصب النهر، قلنا لعل اتجاهات القطارات تتجه لمكان آخر!

فرصنا نتجه مع الطيور الى حيث المصب، وكأنها ليست طيوراً مهاجرة، قد ألفت هذا المكان ولا تريد أن تغادره!


وصلنا قرابة المغيب، توشك، اخرجت هاتفي، أبحث عن لحن يناسب اللحظة، لكني لم أجده في هاتفي، ولكن في ذاكرتي، لحنا قديما يعيدني لذلك الطنبور الذي كان يعزف عليه ذلك الخادم ألحانا لسيده كانها سحابة صيف، عابرة، لكنها تبقى بالذاكرة، بقاء ضوء القمر الذي بدأ يخجل تربيعا فوقنا، من فرط حبه بهذه المدينة.

- خل نرجع بردنا!

- ‏ايه وبدت ترش!

في الطريق مررنا بجانب الملعب، ووجدنا فريقين احدهم بطقم رياضي متكامل، والاخر يبدو انهم من ابناء الحي يقومون بالاحماء قليلا، توقفنا قليلا بجانب كشك لبيع المثلجات، مختارين نكهة القهوة والفستق، ثم طفقنا راجعين!


عندما دخلنا للمنزل، أقصد فندقنا الذي يبدو كالكوخ، كان الجو صاخبا قليلا، ولكن بشكل مبهج، وكأن رقصة فلامنكو شمالية تقام هناك، عندما دخلنا، رحبنا بنا، وقالا: اليوم مميز، لأنه يمر ٢٥ سنة على فندقنا هذا، ولهذا نحن نحتفل!

قلنا: وكل هؤلاء جيرانكم وليسوا نزلاء؟

قالا: أنتم الوحيدين النزلاء بيننا! وهما يضحكان بصوت عالي!

- نتعشى؟

- ‏نتعشى!

- ‏سنتعشى!

فجلسنا على طاولة رباعية الكراسي، كانت الأغنية التي تصدح فيها جو صاخب لا يليق بالمكان أو اللحظة، لكن بعد نصف ساعة تقريبا، تغيرت لموسيقى احتفالية بذكرى عروسين كانا من ضمن الحضور، ووضعا قطعة كعك صغيرة عليها شمعة حمراء على طاولتهما، ثم طلبنا منهما القيام برقصة لتتويج الليلة، جيران مع بعضهم، وبينهم روابط كثيرة، ثم قالت نوارا: من يقترح لنا اغنية؟

رفعت يدي وقلت: سأختار أغنية، قد لا تفهمون الكلمات، وليس بوسعي ترجمتها، لأني لست في مزاج مهيأ لذلك، ولكن الموسيقى كفيلة ان تصنع ليلتكما الخالدة!

فقالت تفضل!

فذهبت لهاتفها الموصول بسلك aux مع مكبرات الصوت، وأخترت أغنية زكي ناصيف "حلوة ويا نيالها" بحكم أننا في شمال اسبانيا، فشخص مثلي قادم من الشرق الأوسط، اخترت أغنية شمالية أيضا!

فلما شاهدهم ينطربون على الموسيقى، وقاما العروسين، قلت لنوارا: ضيفي هذه الوجبة للفاتورة!

وصعدنا للأعلى! نرتاح بعد هذا اليوم الطويل على أنعام الأغنية!



- ثم ماذا حدث؟ / "صوت أحد قراء هذه الكلمات!"

- ‏أترك الموضوع لخيالك النيساني، خصوصا أن كانت قد أصابتك حرفة الأدب عزيزي القارئ!


تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق