الخميس، 4 مايو 2023

..، وثم عبرنا البُرتات!


عندما قررت هذه الرحلة التي تتجاوز ٢٤٥ ميلاً باتجاه الشمال، خيل إليَّ السمح بن مالك الخولاني ومعه عبدالرحمن الغافقي يعبران هذه الجبال من برشلونة حتى لقي الرجل مصرعه شهيداً في سبيل الله في تولوز!


لسنوات وسنوات كنا نسكن في الروضة شرقي مدينة الرياض، خلف شارع عبدالرحمن الغافقي، اذ ان اسم الرجل كان دوما حاضرا في حياتي، اذ أن عبوري للطريق الحامل لاسمه ليل نهار، كانه رجما بالغيب، لعبور ذات الطريق الذي عبر منه غير مرة!


ولعل هواي الأُموي القديم التليد، عزز من بقاء اسم الرجل في الذاكرة، فحتى عند ارتحالنا عن الحي ظل طريقه اثيرا عندي، احرص كل الحرص العبور منه ومن خلاله لطرقات العاصمة المختلفة، كجزء من الحنين، للمكان، وللذاكرة!


في برشلونة، راودتني الفكرة، فكرة عبور البيرانييه، من داخل مكتبة، كان أمامي كتاب "عندما كنا عربا" كتاب أميليو غونثالث فيرين الأندلسي ابن اشبيلية، فتذكرت أن أول من عبر كان الحُر بن عبدالرحمن الثقفي، فقلت في نفسي: لأكن اسما رابعا بينهم، كما قال سميح القاسم:

سنعطي الشوارع أسماء من لم يسيروا عليها طويلا

سبيل الشهادة كان السبيلا

وشائت خطى عمرهم أن تسيلا

وشائت خطى عمرنا أن تسيرا 


فلم لا نتتبعها، أو ما حولها، وقد كان!

في صباح اليوم التالي نزلت من غرفتي لتناول الافطار في مطعم الفندق، كان الصباح باردا، ونصف المأكولات لا يمكن تناولها، فاكتفيت بكوب شاي وزبدة ومربى المشمش، كان كافيا للأمداد بالطاقة، وانطلقنا، وازدادت حرارة شمس الضحى قليلا، وبدأت الطريق تضيق، لكن تزداد وجهتنا للأعلى، وكلما ارتفعنا تتغير درجة الحرارة رغم ازدياد كثافة السحب، فنحن ما بين هواءٍ باردٍ وشمسٍ ساطعةٍ حانقة!

مع ازدياد وعورة الطريق، تزايد تكاثف الضباب حولنا، حتى بدأت اشعل اضاءة التنبية في السيارة للسيارات القادمة من الاتجاة الاخر او خلفي، كي تنتبه لي، وفي وسط هذا الضباب الذي يزداد كثافة، بدأ يخيل لي أني أسمع صوت صهيل بدلا من العصافير، ومعهم صوت حزين يعزف عودا على طريقة زرياب، وينادي تلك البلاد، ويريدها أن تنظر إليه من فوق هامات هذه الجبال.

انجلى الضباب من امامي كستارة مسرح، لتمتد أمامي طريق طويلة ضيقة ملتوية، تبدو قمم جبالها مُكساة بالثلوج، وأنا أقول لرفيقتي: أنظري! ذلك الفارس المتوج الذي يسير عكس طريقنا يريد النزول نحو الطريق التي جئنا منها، تاجه مميز من ذهب، وخيله أوروبية بامتياز، ما لبث ان ترائت لي محطة وقود تعمل فيها فتاة بملامح شرقية ذات شعر اسود تتحدث الفرنسية بلكنة باسيكية، توقفت قليلا، فسألتها إن كانت تتحدث الانجليزية، وعن المكان الذي نحن فيه؟ كأنه اشبه ببرزخ بين مكانين تختلف فيه الازمنة والأماكن!

قالت أن اسمها نورا، فسألتها عن منشأ الاسم، فقالت انه لا تيني، لكن أن كنت تعني مرور التاريخ في عروقي لا تستبعد، كل المنطقة هنا قد يكون لها جذور لا نعلمها، لكن لا تخبر أحدا اني قلت لك ذلك! وابتسمت وأمالت رأسها قليلا لليسار مع ميلان شلال شعرها، فانجلت بعض الغيوم ليظهر منها شعاع شمسٍ دافئ!

التفت خلفي فإذا بفارس عربي تبدو عليه ملامح الإمرة، مر بجانبي، ثم سأل؟ أرأيت قارله؟

قلت مه!

قال: قارله الكبير! الامبراطور الروماني!

قلت: اوليس فرنجيا؟

قال لي: هل أنت من اتباع الحسين بن يحيى الأنصاري؟

قلت: لا!

حينها فقط، التف ذلك الفرنجي صاحب التاج نحونا، لكن كلما اقترب، تتلاشى صورته داخل الضباب شيئا فشيئا حتى اختفى وهو يقول: رولاند!


اغمضت عيني من جديد وفتحتها، فاذا كل شيء عاد الى ما كان عليه قبل الرحلة، فقط احتاج الوقود، وزاد للطريق!

- أين تلك الباسيكية؟ سألت رفيقتي!

- أنتظر أنها هناك، داخل الدكان الصغير!

فدخلت، ثم قلت: كم تطلبين لقاء هذا يا نورا؟

فاشارت انها حوالي ثلاثة وثلاثين يورو، فتأكدت أن ما كان هو اشبه بحلم يقضة او شرود، لكن ما ان فتحت الباب، حتى رأيتها تلوح بيدها لي وتقول: صحبتك السلامة!

ذهلت، ولكن التفت خلفي لعلي ارى احدا ممن رايتهم في حلم اليقضة هذا، لكني لم ارى سوى الضباب!

اكملت طريقي بالسيارة وانا اتفكر بالذي حصل معي منذ قليل، ولكن ما هي لحظات حتى تلاشت كما يتلاشى الضباب.


استمريت بالمسير حتى دخلنا مدينة وسط الجبال، كما الحلم، وكأنها محطة عبور، توقفنا فيها لليلتين، ثم انطلقنا منها شمالا، لا نتوقف حتى نصل الى المكان الموعود: تولوز!


دخلنا المدينة من جنوبها الشرقي، اول الضحى، مستمرين في السير على طريق تغطيه الاشجار تتساقط منها ورقها بشكل يبدو وكأنه قصيدة يملؤها الشجن، لكن ما ان اقتربنا للنزل الذي سنبات فيه ليلتنا، خرجت لابحث عن موقف لسيارتي، قريب من المكان، وجدت موقفا قريبا من مجرى النهر، وعلى ظفته الاخرى آثار مقبرة!

حاولت أن اتعرف عليها، إن كانت أحد الوجهات التي علّمت عليها في الخريطة، لكن كلما اقتربت منها، ازدادت برودة الجو، والضباب.

تجاوزت السور الحديدي، كان صوت صرير الباب يوحي بالرهبة، فلما تقدمت، وجدت قبرا بلا شاهد، ومسوى بالارض، وسط بينها، والبقية على ما ألف أهل البلد، وجدت عنده رجل يجلس على ركبتيه أمامه، اعتم بعمة قد اكلتها الغبرة، رمى عذبتها خلفها، وبجانبه سيف مكسور ملقى، مُدارع، وان كان في درعه شقوق، من اثر الضرب عليها، حنطي اللون، تبين ذلك من يديه، لم اسمه منه الا كلمه: ارجو أن يتقبلك الله!

حاولت اقترب اكثر، لكني تعثرت بغصن شجرة اوقعني على الأرض، فلما رفعت رأسي، لم اتبين الرجل، كأنه ذهب!

فذهبت لذلك القبر الذي كان عنده، ولم اجد ما رأيت سوى دمنة، فقط غطتها الزهور، كأنها الطلل!

فقلت في نفسي: لعل ما رأيت في يقضتي هو توديع عبدالرحمن الغافقي للسمح الخولاني بعد استشهاده، كأني ارتحلت لهذا التاريخ مرتين، فلم يبقى من اوجه الارتحال الا أن اصادف نابليون بونابارت! فأكون قلبت كل صفحات تاريخ المنطقة!


قفلت عائدا مشيا إلى الفندق، بعدما انقشع كل شيء، وعند مدخل الفندق صادفت رجلا قصيرا به صلع يلبس بدلة زرقاء ببنطال ابيض ضيق، ففزعت!

 - أهو هو؟ أهو حلم جديد؟ أم هلوسة من المرتفعات؟ - قلت في نفسي -

فلما اقتربت منه قال لي بالفرنسية كلمات لم اتبين معناها، فلما اعادها بالانجليزية كانت: أمعك ولاعة؟

قلت: لا، لكن قد يكون مع عامل الفندق!

فدخلنا، فتبين بعد قليل أنه جاري في الغرفة المقابلة، التفت له وبابتسامة وكلي ثقة: لا تقل لي ايضا ان اسمك نابليون؟

رد قائلا: ايضا! اسمي آراميس! اتريد شيئا؟

فانسحبت بكل خجل لداخل غرفتي، وبدأت اعد حوض الاستحمام الدافئ للاسترخاء، ثم دخلت في حالة تأمل طويلة، انتجت هذه الاسطر!



Au revoir!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق