الثلاثاء، 12 أبريل 2022

أصدقائي الأطباء: شكراً وتباً لكم!


الإهداء: إلى ص. د/ص


في هذا السياق مؤكد يتبادر للذهن اختيار العنوان، لعل خلفه أني تذكرت شريف منير في فيلم بحب السيما -بغض النظر عن كون الفيلم هو تمصير لسينما برايسو الإيطالي من عدمه- وهو يقول على لسان نعيم عدلي الطفل (والذي يؤدي دوره يوسف عثمان) : "طول عمري بكره الدكاتره، مش الدكاتره وبس، لكن كل الي بيتحكموا فينا وبحياتنا بحجة أنهم بيعرفوا مصلحتنا".

  علاقتي بأصدقائي الأطباء فريدة ومتنوعة، فهي تنتقل بين طرفي المنحنى السيني الرياضي، من طبيب عام حتى أخصائي طب جنائي! وكذلك علاقتي معهم تتنقل ايضا بين طرفي المنحنى الصادي الرياضي، لكن ليس بحدية المنحنى السيني قطعا، لكن المنحيين قد يبدوان لك تصور عن مدى قربهم مني في العلاقة، ولعلي سأرمز لهم بحروف توضح ذلك! 
 لكن أكثر علاقة مضطربة هي مع اثنين من أطباء الأسنان ولعل هما الأكثر اضطرابا في هذه العلاقة الشائكة، بين مجموعة الأطباء حولي، وفي كل مرة أفكر في زيارة عيادة لأي منهما أتذكر داستن هوفمان في فيلم ماراثون مان مع لورانس أوليفيه! حيث أن الفيلم يحكي عن رجل يهودي يهرب من مطارة عدد من المسؤولين الأمريكيين الذين يدعمون ألمانيا النازية سراً، فيقع بقبصة طبيب الأسنان د.كريستيان جيل الذي يعذبه عن طريق أعصاب أسنانه، لا تتملك تفسك وأنت تشاهد أوليفيه وتسمع صراخ هوفمان إلا أن تتحسس أسنانك وأنت تشعر بذات الألم!
 لكن لنبدأ بالدكتور عين راء بما أنه جاء الحديث عن أعمق أعماق السن: الأعصاب! لعلها معرفة في أقل من سنة، وفيها طابع شديد من الرسمية، أنعكست أمانة على خفة يديه، ومرونه في العمل، والغريب أنني كلما حدثته أتذكر أحد الأصدقاء ويدعى زاي ميم فهما يتمتعان بذات الطريقة في الحديث والتبسم وإمالة الرأس حتى تسريحة الشعر، لكن هنالك اختلافات في المظهر العام، تجعلني أوقن اني لم أمر عبر بوابة زمنية ما، لكن نبرة الصوت تجعلني في شك عندما أغمض عيني وأنا مضطجع على ظهري في العيادة وهو يحفر في ضرسي، وأفكر مع كل وخزة: أليس هذا ظريفا وإن بدى مؤلما قليلا؟
 لكن الحقيقة هنا تكمن أن هذا الصديق الذي يشبه هذا الطبيب، على علاقة بطريقة غير مباشرة بطبيب أسنان أخر اعرفه منذ سبع سنين تقريبا، وبشكل يشبه الفواصل الأعلانية، يدعى ميم شين، وهو يشبه حروف شين كثيرة في المعمورة، لكن شينُهُ مميزة، وكذلك عمله، شهد له بذلك طبيب أسنان ثالث أعرفه منذ زمن، أكثر من عشر سنين، يدعى ميم قاف، حتى أن ميم شين ذهل عندما علم أننا على علاقة ببعض أكثر من وطيدة!
 الشاهد هنا: أن عقلي ونفسي بدآ يصوران لي أن طريقة العمل في العيادة تنعكس على طبيعة تكوين العلاقة، او لنقل مدى شدة توطئتها! 

 وهنا أتذكر طبيب الصدرية الأردني، الدكتور ميم، فهذا الطبيب يعرفني منذ أن كنت في الخامسة من عمري، فوصلت إلى مرحلة ما إن أدخل عليه العيادة يقول لي: هاه بخاخ والا جلسة والا موعد عام؟ ثم أني ابدي له ما اريد في أقل من خمس دقائق ثلاث منها ذهبت في التحايا وكيف الأحوال والأهل وخلافه من الترحيبات، ثم يختمها بتحية للوالدة! 

 الداعي لهذا الاستحضار هو أن أكثر مشوارين أكرهما في حياتي: هو الذهاب له أو لأي طبيب أسنان حتى لو كان صديقا مقربا، وكان مما يهون وطأة المشوار أني صرت خبيرا في حالتي عندما أذهب للدكتور ميم الأردني، لكن مسافة الطريق تضيق مع كل لحظة ضيق تنفس، حتى صار بخاخ الفانتولين الأزرق صديقا مقربا! أما مشوار الذهاب لعيادة الأسنان مهما كانت فهو مثل الذهاب لورشة صيانة السيارة، كل ما هو مصاحب له كئيب حتى الأغنية التي تختارها، وكأن أبرز ما يرافقك كخلفية أغنية فيلهلم سترينز: "إنجلاندليد" التي غُنيت خلال القصف النازي على إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية، وإذا خرجت ليلا لا تريد أن تنظر للقمر حتى لا يتغير شيء من تكوينك البشري وأنت منتجه لعيادة يعمل فيها رجل سادي يوصف من الأطباء الآخرين أنه ليس بطبيب! 
 أنا آسف يا ميم قاف، لكن عند الخروج من العيادة أيضا ستستمع 
لأوبرا دير فرايشوتز: لكارل ماريا فون ويبر! وهي تصدح تقول: "ابني، 
 تحلى بالشجاعة! 
 من يتوكل على الله يبني الخير،
 لنذهب! 
 في الجبال والهاوية 
 غدا تحتدم الحرب السعيدة!"
 نعم فمزاجك منذ لحظة الدخول إلى الخروج من سرير المجزرة وأنتما تتبادلان مشاعر حمراء يكبحها العقل أن لا تنفجر!
 فهذا السرير الأزرق مثل طاولة الجزارة، على حد تعبير أحدهم في مستشفى مانشستر لطب الأسنان، حيث أن ذلك المستشفى الغريب يحتوي كل الأنواع الفئوية من الأطباء وبتوجهات صوائبية أيضا، ففي كل حديث كنت تفتحه مع أحدهم تُعاد لك ذكريات القصف النازي وتتسائل ما إذا كان القصف طال مانشستر أم أنه كان على السواحل الجنوبية لإنجلترا وويلز فحسب؟
 ولأن الأسنان مشترك انساني يتفق الكل على بغض اي تنائج عنه، فهنا أتذكر طبيبا سوريا يدعى ألف حاء، تولى عملية سحب أول ضرس عقل كابر على الخروج من فمي، حيث أن جذوره كانت عالقة أسفل فكي كشنكار شبكة صيد طرف منها على المركب والآخر في المحيط، لكنه محيط الدم في فمي، ولمعة المشرط التي تبرق فوق عيني تحت الإضاءة الصفراء كأنها شمس الظهيرة التي لا ترحم!
 لكن يديه كانت رحيمة، والعلاقة معه طيفية وأن كانت بدأت منذ سبع سنوات مضت ونيف، لكنها علاقة طيفية وكأن الزيارة له ومحاولات استنهاض التاريخ الطبي من ذاكرته مثل تحضير الأرواح، لتنتهي هذه العملية بكلمة: "ايوا هلأ اتزكرت! طيب بعدين شو صار؟" ما صار شي يا دكتور لكن كل الاستشارات ادت في النهاية للعودة لك! 

 هذا الضرس تحديدا جعلني أمر باستشارات عدة وكلا يدعي وصلا بليلى كان أحدهم ميم قاف، لكن انتهى بي الامر لطبيب هو أحد أقدم رفاق رحلة العمر، ربع قرن تقريبا تمتد العلاقة الذهبية الملكية، لدرجة أنها ابدو وكأنها علاقة بين أفراد المافيا، مجرد اتصال طفيل بصنع روشيته طبية او حتى الاحالة لطبيب او تشخيص مبدئي قبل الذهاب لطبيب، كل هذا واكثر مذ كان طبيب امتياز حتى غدا طبيب شرعي، صاد عين تكفيه مكالمة، تلقي التحية، تحدد موعد لقاء، وينتهي الأمر بكل ما تريد، ولهذا ساعد كثيرا في رحلة البحث عن استشاري جيد لضرس العقل هذا، وانتهى المطاف في عند استشاري يعرف الطبيب ميم قاف، فسبحان هذه الدنيا، جدا صغيرة. 
 لكن يظل صاد عين هو الاكثر استثنائية في هذه القائمة، أو الدائرة من الأطباء، ولعل الرحلة إلى كندا التي ننتقل فيها بين لغتين كلها للهروب من الفرنسية كانت كفيلة بإعطاء تصور عن مدى طبيعة العلاقة المتوطدة بيننا، فمهما كان نوع الألم الذي أعانيه، سأجده حاضراً، كما وجده حاضراً لمداواة نفسي بعد حادثة فقد غالية قبل أربع سنين تقريبا، لعله هو الوحيد الصديق الطبيب! 
لعله ايضا قد ينسحب على ميم قاف أيضا. 

 هنا أتذكر هنري كارتر (كيفن سبيسي من فيلم شرينك) وهو في غرفته بعد انتهاء جلساته السريرية النفسية، وعائد لبيته ينظر لغرفة زوجته السابقة قبل ان يدخل اليها لينام. هنري يعالج ناس يعملون في هوليوود، وهو لا يحفل حوله باصدقاء كثر، رغم انه هو قد يبدو صديقا لأُناس كثر! 
 فهل تحتاج أنت صديق أم طبيب؟ أم أن الصديق الحق هو طبيب لك وإن لم يمتهن الطب؟ 

 اصدقائي الأطباء: شكراً وتباً لكم! 
 الا من رحم ربي وشملته بعوفي من مشاعري الحمراء! 


 تمت