الثلاثاء، 8 مارس 2022

خمس ساعات ونصف من الصمت!

بكل مباشرة مقيتة، كانت هذه هي مدة رحلة العودة للعاصمة الإنجليزية، لندن!

خمس ساعات ونص الساعة من الصمت المطبق، هو عكف على مشاهدة فيلمه، ورواية جديدة اقتناها مؤخرا بناء على نصيحة مني، وأنا خلال ساعتين أحاول لولادة متعسرة لهذا النص!

المهم أنه بدأ ينهمر مثل مطر العاصمة الإنجليزية، لا هو زخات ولا هو رذاذ، لكنه تساقط مستمر لقطرات المطر، وكأن بهجة الشمس بدأت تعود لتتوارى خلف الغيوم، لتعيد خلق الأشياء من جديد، باردةً باهةً يتعثر بصرك وأنت تشاهدها، وكأن لا لون لهذه المدينة الا الرمادي، كأنه حذاء ريفي متعثر في الطين!

هنالك مدن تساعدك أن تكون مثل المشاهد لهذا الفيلم، فيلم الحياة في هذه المدينة، كسائح أو زائر أو حتى غير مقيم لفترة طويلة، تجعلك تستشعر الكثير من المعاني التي تطالعها عنها وهناك وتستخلصها من بين دفات الكتب حين تعيش اللحظة، لأسميها اللحظة الجبرانية؛ إذ يقول: زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى" لكن أليست قراءاتك مما مضى؟ ويقولون أن النسيان يسلي، هُنا قد يغبط المرء على ذاكرته، لم؟ لكنه يفك رموز كل لحظة بدون عاطفة كأنه أحد أنماط الجنون ثم تمضي للأمام للحظة تالية!

لكن هل هي الأجواء التي تخرج الأفكار كفقاعات لتنفجر لتنتثر مثل دواة انسكبت على قرطاس ناسخ؟

يقول أودونيس:

"ضيع خيط الأشياء وانطفأت! 

نجمة إحساسه وما عثر!

حتى إذا صار خطوه حجراً!

جمع أشلاءه على مهل!

جمعها للحياة وأنتثر!"

فما معنى هذا؟

كلام فارغ يحاول صنع صورة جميلة وسط المسير بين الغيوم!

إذا لما استحضرته؟

صدقاً؟ لا أدري! هو محاولة مني لكسر هذا الصمت مع نفسي في مشاكسة للقفز على الفكرة التالية!

كثر هم الأدباء الذين قد يتوارون خلف نصوص تبدو براقة وفي حقيقتها كأنها حجر الصوان!


- أرجو منك التركيز!

- أنتظر للأغنية التالية وسنعود!


هنا الآن استحضار منطقي فيه تفكيك للحظة:

يقول محمود درويش:

"أنا للطريق

هناك مَنْ تمشي خُطَاهُ على خُطَايَ,

 وَمَنْ سيتبعني إلى رؤيايَ. 

مَنْ سيقول شعراً في مديح حدائقِ المنفى، أمامَ البيت"

هل أحيانا الأبداع يتتبع خطى من سبقه، أم كما قال عنترة: هل غادر الشعراء من متردم"!

المدينة عندما تعبر فيها تكسوك بشخصيتها التي قد لا تكون هي بالضرورة أنت! وقد تساهم أنت في صنع اللحظة التي تريد أن توازي فيها لحظة أحدهم! لكن أمانةً قد أيضا تحاول فيها فهم ما الذي دفع أحدهم أن يرمي كلماته بهذه الطريقة؟ هل هو كان يصطنع اللحظة؟ أن أن أجواء هذه المدينة أو تلك هي التي دفعته لذلك؟

البعض لا تستطيع تصديقهم حتى لو تعلقوا على أستار الكعبة، لكن كلنا نعرف أيضا أن أعذب الشعر أكذبه!

لكن مهما كان تستطيع تمييز البساطة المرسلة المنهمرة انهمار المطر، ولهذا قال المتنبي: أَبلَغُ ما يُطلَبُ النَجاحُ بِهِ الطَبعُ وَعِندَ التَعَمُّقِ الزَلَلُ!

ولهذا يمكن أن تجعل من الساعة قصة، ومن الرحلة رسالة، ومن الصمت مقالة!


- ولم تنتهي الرحلة، ولم نعرف علاقتك بالمدينة، قد مللت نصك!


أحم! على كل حال، المدينة مؤنث، ولهذا علاقتك دوما تحمل الشد والجذب، فالمدن أما أن تحتويك أو تلفظك!

واحدة من أكثر المواقف التي تدفعني للتساؤل هي اللحظة التي وقف تشارلي تشابلن أمام منزله القديم في لندن قبل أن يغادر إلى سويسرا حيث كان مرقده الأخير هناك؟

هل هذا جزء من قتامة صورة المدينة الرمادية الملبدة بالغيوم لدرجة أن تلفظ أحد أبنائها؟

ما قيمة المدينة داخل نفوسنا؟ 

هل للمدينة أي أثر؟

أم أنها مجرد جذر؟

هذا الشعور رافق تشابلن في كل أفلامه، فكان يعيد تصميم لندن في أفلامه كلما حصلت فرصة، بمناسبة أو بغير مناسبة، فهو لم ينسى المدينة وأن كانت ذكرياته كلها تعيسة معها، هذه التعاسة في لندن تتكدس على طرقاتها لتعيد حملها غيومها عندما يتبخر  بخار الماء فتتبخر معها ثم تنهمر تعاسة من جديد لتظل الغيمة مكسوة بها، وكأنها عملية لا تنضب من التعاسة!

الكل يقوم بشكل آلي روتيني ليشتري القهوة السيئة، لا ليصحو بقدر ما أنها تساعده على الدفء حتى يصل لمقر عملة ثم يسكب الباقي في سلة المهملات! حتى أنه لا يفكر في تناول إفطاره بروية، لكن أنتظر هل هنالك إفطار يستحق الوقوف عنده في مدينة تعج بالحركة الصاخبة التي لا تتوقف، ثم تتوقف فجأة عند السابعة؟

بلدة فيها كل شيء تقريباً ولا تحفل بأي شيء في الوقت نفسه! لأنه هذا الحس العالي المرهف بالكبرياء المتغطرس فلا يريد أن يبدي أي اهتمام لأي شيء حتى لا يبدو مهما، وهذا ما اصطبغت به شخصية المدينة!

لوحات في كل زوايا المدينة: Dry Cleaner!

في الحقيقة الأبخرة تتصاعد في هذه المدينة من كل مكان وفي كل اتجاه: الأبنية، المطاعم، المقاهي، عوادم السيارات، المجاري، حتى من أفواه الناس! الكل هنا يمر في مرحلة من الغسل بالبخار وجفاف في المشاعر!

ولهذا تكون كل المناظر باردة باهتة متلبدة بسبب تراكم الألوان القاتمة التي تريد أن تعكس أمام خلفية لون الغمام الرمادي الذي يعلو الأفق، ولهذا الفرح بالشمس المتهافت تهافت الفراش للنار ليس للبحث عن الدفء، لكن حقيقته هو اللون الوحيد الذي يعيد رسم خلفية المدينة وقد ينجب سبعة ألوان تعيد تشكيل صورة قد تدعو للتفاؤل داخل هذه المدينة ذات اللون الواحد: الرمادي! لونٌ بلا هوية يحاول أن يكون كالأسود في امتصاصه للألوان لكن استعصى عليه فحاول الاقتراب من الأبيض لكنه لم ينصع  ولم تفلح معه كل محاولات الغسل بالبخار فغدى في منزلة بين المنزلتين كما يقول واصل بن عطاء مؤسس المعتزلة!

فهل اعتزلها هذا اللون؟

لا اعتقد ذلك! فهو باقي فيها ما بقي الدهر لا يغسله شيء، فقط هو صورة ثابتة لخلفية تاريخية يعبر منها الكل لمحطات قادمة قد مر قبلها من خلالها أناس كثر، فالمدينة كنست كل المغنين كما يقول محمود درويش، وكنست معها الشعراء والادباء ومن لف لفيفهم في شمس المنفى!


- إذا لم ذهبت إليها ابتداء؟

- للتعرف على أرث المدينة من الألوان والأمطار!

- إنما الناس سطور كتبت لكن بماء؟

- كنت قد قلت لك: لحظات جبرانية!



تمت


في قطار العودة من إدمبره، أسكتلنداـ، وما زال صوتها يناديني من جلاسكو!

الوقت: 11:47م يوم الأثنين 7 آذار/مارس 2022م الموافق الرابع من شعبان 1443هـ

وما زلنا صامتين ومتبقي على نهاية الرحلة ساعة ونص!

يا إلهي! صبرك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق