الجمعة، 4 مارس 2022

نحو أربعة آلاف ميل نحو الشمال

 

"مسافة هذه الرحلة أربعة آلاف ميل باتجاه الشمال، سأذلل كل الصعاب نحو ذلك"


قد يتبادر إلى الذهن أن هذا اقتباسا عاديا، لكنه ليس كذلك، فصاحبه أراد حماية زوجة صديق عمره الذي كان له كأخ، وهنا كنت أنا أحمي حُلماً رافقني فيه صديق!


والذي ضمَّني في العيون صديقٌ

والذي حارب الوهم عني صديقٌ

والذي بعد قلبي صديقٌ

أميِّزُهُم..

كلُّ نَجمٍ صديقُ.

ولعل هنا كان قاسم حداد يتكلم بلساننا عني وعنه، فأيهم أصعب عندك حماية حلم أم شخص؟

لعلها كلا الأمرين!

لكن بعيدا عن الكلمات هذه المبعثرة بالفعل كنت أردد: خذني إليهاّ يا لهف نفسي إليها!، ونظل في تعاملنا معها ندخل في نقاشات حول حبس لحظاتنا معها، لكن رفرفة روحي عندها تشبه جنحان طائر مل السفر يريد الوصول.

- ولكنها مدينة!

- أتدري أن المدينة مؤنث! وأقبض قميصي بيدي اليمنى عند رقمتي كأني قيس بتصور سينمائي معاصر!

ثم كانت الفكرة تحط رحالها بين أيدينا، لكن لعلي نصحته قبلا بالذهاب إلى هناك، لكن من فرد متعته ذهب لكل ما يجاورها عدا أقرب بلدة تشبهها في الطباع، فقلت له: تأكد سلفا أن هذا حلم أيضا سناتي عليه سويةً، فقر عينا، وكأن القمر قد نام بين يديك!

اليوم غائم كعادة العاصمة الإنجليزية البغيضة، مدينة تستشعر أنها كئيبة منذ أن تطأها قدماك، البيوت الحجرية ذات السقوف الخشبية المتراصة ذات المداخل السفلى الخاصة بأهلها وكأنها تشكل جزء من قاعها، والغربان تنعق في كل مكان، صباحا، نهارا، ليلا، حتى بعد منتصف الليل، الغراب هنا هو الطائر الأثير، يدق أبواب كل اللحظات فيها، فمهما كان الطقس جميلا، لكن هذا الضباب الذي يلف المكان، والعيون التي تسبح فوق رأسك، تكتمل جوقته بغراب يقف كأنه حارس الجحيم على شجرة لم يبقى من اوراقها الا هذا الغراب الذي ينعق مرحبا بدخولك!

لكن انتظر، سهرة الأصدقاء لم تنتهي هنا، فكانت أول محاربة لهروب من لندن كان للجنوب، حيث تتداخل ثلاث تيارات مختلفة تداخل أمواج البحر نفسه، فالإطلالة على الشواطئ الفرنجية ليست سعيدة أيضا، ثقافة شرط أوسطية ممزوجة بثقافة ريفية انجليزية مع غزو للزاوية الصفرية الرياضية للمنطقة!

المهم أنه كان هروب ناجح يجعلك تحلق ولو قليلا بعد هذه المسافة الطويلة من الأميال،...،

- لكن انتظر! ما هذا الطائر الذي يحلق فوقنا؟

- نورس؟

- تبا!

لطالها كان هذا الطير الجميل يحظى بثلاث مزايا منفرة: منقار طويل، مظهر منفر عن قرب، ونعيق!

نعم! صوته منفر يا أيها السادة! مجرد غراب بإيهاب أبيض!

- ولكن ما يقلقك!

- لا شيء! لست بحارا بطبيعة الحال، لكن هل يختلف هذا عن ذلك الشعور في لندن؟

- على الأقل برايتون هنا الناس فيها ودودين

- الود مع طائر النورس وارد جدا لكن كما قلت لك لست بحارا!

- لست بحارا ... لست بحارا ... هذه أحد استعاراتك المعتادة!

- صحيح! - وكنا نعبر مستنقعا - فقلت له من هذا المستنقع يبرز لك مستنقع التاريخ ويلقي بظلاله علينا، فالبحارة يستبشرون بطائر النورس اذا كانوا في عرض البحر لأنه يؤذن باقتراب اليابسة، ولسنا في بحر، لكنه نذير شؤم أيضا فلا يقتل ولا يلمس كأنه أحد ظباء مكة!

- وظباء مكة أيضا!

- صيدهن حرامُ، وكذلك النورس لأنها تنقل أرواح البحارة!

- أترك مستنقع التاريخ الآن جانباً ولنصعد جرف الأخوات السبع!

وبالفعل كان يوما فريدا مفعما بطيور النورس والغربان أيضا تحلق فوقنا وفوق الاخوات السبع! كأننا في داخل طقس وثني لساحرات يردن ثنع حكاية جديدة لهن داخل الأسطورة المحلية للمدينة!

فكلانا يستميت لاصطياد لحظاته الفريدة بعدسة الكاميرا خاصته، وكأنه سباق، لكنه بطريقة أو بأخرى تعبير عن شعور بلذة اللحظة، ويبدو علينا هذا الحب الذي يتفجر داخلنا.

- فأقتلها وتقتلي ونحيا ... ونخلط ما نموت بالنشور .... أليس كذلك؟

- بلى هكذا قال النميري

- ما رأيك، كأن المكان ألهمني بكتابة سيناريو فيلم، لنقل مثلا:

مشهد 1 - نهاري - خارجي

عند حافة العالم،

رجلٌ يتأمل،

ونورس!

ذكرني، ما اسم صوت النورس؟

- نعيق!

- نعيق!

- نعبق!

- هل تمزح!

- أبحث عنه!

.... وبعد هنيات

- إلا والله نعيق الله ياخذه!

- كُنتُ قد قلت لك: مجرد غراب بإهاب أبيض!

- وإسماعيل! وغمر لي

- قلت الآن هي استعاراتك!

- لكن نحن الذين ورثنا موبي ديك تنتقل من جيل الى جيل، فكل لحظة معها فيها سطر يعجبك! فبالرغم من احتفاظي بنسختين منها الا اني اريد تلك النسخة التي ارثها من احدهم ليرثها مني! وتبسم وهو منتشِ فرحاً

- بسبب نهايتها قطعا تملك هذا الشعور، لكن هذا يذكرني بذاك!

- ماه؟

- أنت هُنا مع هذا الإرث يعزف فوقك الناي وكأنك وحدك في قارب عريض القعر قد سلخت أياما  من حياتك ويبدو كل شيء فيك الان عجوزا خلا عينيك! لونهما لون البحر الذي كنا عنده مبتهجتين في حديثك الآن!

- وهذه منك استعاره! وغمو لي تارة أخرى

- أرحمونا! صاح السائق

وسكتنا عن الكلام المباح.

ثم لم عدنا للضباب، كانت اجسادنا تترنح، كأننا سكارى وما نحن بسكارى لكننا حيارى، من ذكر الله طبعا، لكن كأن رفيقي لم يعد النظر في سيناريو فيلمه، قد كره منه ما رأى، فاحتفظ بصورة الشؤم الأبيض ولفظ الباقي، وهو ما زاد انقباضه حتى اليوم التالي!

وكالعادة المزيد من الضباب والغيوم والغربان السوداء والمسير حتى ذلك المقهى الخشبي المتهالك وكأن بصيص نور للشمس يحاول العبور له كأنه الكنز تحت اخر قوس قزح عند الشجرة، فجلستنا وتحادثنا ولكنه مهموم بعمله الذي لا ينتهي، فتركته ومضيت مستكشفا، كأنني طفلة تغريها الهدايا، خلال ثلاث ساعات من المسير شدتني تلك الموسيقى التي اعرفها، موسيقى القرب الأسكتلندية، موسيقاها تسكن قلبي، ودقاته تهفو إليها فتركت ما في يدي مسرعا، حتى بعد أن انطفأ هذا الصوت، ووجدت العازف يلملم آلاته، لكني وصلت له لأسرق منه وقتا يسرقني من وقتي!

يبدو حوارنا وكأنه حوار مترجم:

- يوم جيد

- بالتأكيد

- عزفك جيد كذلك

- أشكرك

- لم أر حولك أناس كثر

- لا أحد يحب موسيقى القِرب، عزفت هنا فخرج لي طبيب نفسي وقال لي: لقد أزعجتني وأزعجت مريضي، من لهجته عرفت أنه من نيويورك!

- دعك منه! أنه أمريكي بغيض وحقير في آن

فضحكنا ...

قلت له: من اسكتلندا أنت؟

- نعم

- من أين؟

- كيركوال!

- في أقصى الشمال إذا! أتدرى في الغد سأزورها!

- أين؟

- أدمبره! وأقبض قميصي بيدي اليمنى عند رقمتي كأني قيس بتصور سينمائي معاصر

- وهل أخترت المدينة هذه بالذات لسبب محدد؟

- بلى! السير شون كونري من هناك! اسكتلندا لم تختزل في شخص واحد الا من خلاله! شخص لم يتخلِ مطلقا عن أصوله وتفاصيل هويته حتى في الملبس، فبالرغم من عيشه الطويل في اسبانيا الا ان قلبه كان دوما هناك! في ادمبره، في اسكتلندا!

- فقط لهذا السبب؟

- طبعا لا، فهنالك تشابه ثقافي كبير بيننا ولعل هذا الشعور الذي يلف هذه المدينة الوحيدة بسكانها الوحيدين يجعلني ذو روح غير مستقرة فيها وكأنني بحار يبحث عن ميناء ولو كمستقر!

- لكنك لست بحارا بالطبع!

- مؤكدا!

- كان من الجميل الحديث معك سيدي

- وأنت كذلك

وعدت مع رفيقي احكي له القصة ونصيب بعضا من الراحة قبل رحلة الغد!

وفي اليوم التالي الجمعة الرابع من مارس\آذار 2022م الموافق غُرة شعبان 1443هـ خرجنا من منزلنا وكأن ممدوح عدوان يعنينا إذ يقول" وأنا لم أهاجر ركضت وراء المدينة وهي تهرول في الضباب" فقد كان مبنى محطة صليب الملك هي التي تختفي في ضباب هذه المدينة التعيسة، فقطار الرحلة غادر قبل أن يصل حلمنا، لكن سرعان ما تداركنا الموقف في قطار القطار التالي!

- نصف ساعة لسيت بالمؤثرة!

- بالتأكيد يا صديقي

فلما دخلنا القطار المتجه الى المدينة، تسارعت دقات قلبنا وكأن المقصورة ما هي الا رحم الأم الذي سينقلنا لحضنها بعد سويعات كأنها الولادة!

ولادة حلم السفر الى أدمبره، عاصمة مملكة اسكتلندا


كتبت هذه التدوية بعد تجاوز أخر محطة في الأراضي الإنجليزية وكانت الساعة تشير للثامنة وعشر دقائق مساء، ولم نر ولا طائر حتى يحلق معنا، وهذا أعظم مؤشر لدى الانجليز: لا حظ سيء ولا جيد، فالأمور اذا بخير.


بالمناسبة عزيزي القارئ: الأربعة آلاف ميل هي المسافة مشيا من الرياض الى ادمبره!

تمت 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق