الاثنين، 21 مارس 2022

بقايا اليوم!

 في شارع ارتصف حجرا قوطياً قديما، تمثل أمامي بابا خشبيا اسود اللون معتّق، حمل اسم السيدة بيث صاحبة منزل الشوكولا!

أمانة انتابني شعور غريب، وتذكرت قصة العجوز التي تطعم الصغار الحلوى حتى يسمنوا ثم تطبخهم بقدرها العظيمة لتأكلهم، ولكن هذه خيالات أوروبية مريضة، الأكيد أني دخلت للداخل ووضعت حقيبة الظهر على طاولة خشبية في الزاوية وطلبت من النادلة الشابة ذات الشعر البني الذي جمعته لأعلى وثبتته بدبوسي ذهبي اللون ذو لمعة واضحة كأنه الزهرة في السماء اذا بانت في الليل الرائق، بقرطين ذهبيين صغيرين جدا، تنساب أحد خصل غرتها على عينها اليسرى وكلما ارادت الحديث هزتها للخلف لكنها تعاود فتتبين حينها لون عينيها العسليتين، ليست بالطويلة ولا القصيرة ذات لون بشرة أقرب للون الشامي المألوف لدينا، كان طلبي حليب بالقهوة وجلست في طاولتي حتى تأتي القهوة التي أتى معها قرص من الشوكولاتة المرة.

أخرجت كمبيوتري المحمول وفتحته لأكتب نصاً، على يميني اطلالة على هذا الشارع القوطي القديم، ساعة غروب للشمس، وعن يساري فتاتين يعيدان ترتيب أحداث يومهما الطويل بالحديث عن صديقات اخريات فهم يمارسون الهواية المفضلة: نهش لحوم البشر مجازيا، وعائلة اقصى يسار المكان مهما رضيع يبكي بشكل متقطع يحاولان معه الاستمتاع بالمكان، وشابان يجلسان يلعبان لعبة ما لا أتبينها، ودخل النادل الأخر أيضا شعرة بني بعيون عسليه يبدو انه للتو عاد من رمي نفايات المقهى.

هذه تدوينة لا تبين شيئاً، ولا تميل حتى لتبدي شيئاً أيضاً، وما زال الطفل يبكي، لكن الان دخل أيضا زوجان شابان وجلسا عند طاولة قباله نافدة تطل على الزقاق الجانبي للمقهى، ثم دخلت فناة آسيوية بشعر أسود شرقي، وبرفقتها صديقتها الشقراء بملامح إنجليزية، يرتديان نظارات شمسية وقد بدى يخيم الليل، فلا أدري ماذا تصنع النظارات الآن! المهم أنهما يفكران ما هو الطلب الكفيل بجعلهما يستمران طيلة الليل.

كنت أقول: هذه تدوينة لا تبين ولا تميل، ففي كل يوم يبقى من كل تفاصيله شيء ما يرشح ألوانا تعلقها في متحف الذكرى، لكني ناديتها - أي الذكرى - لأكتبها، فكما ينبث العشب في البرية تنبت الأفكار، في الغالب أنت تحتاج مكان هادئ نسبياً تحصد فيه هذه الأفكار حصاد المزارع للقمح.

وقد جلستا الان - أعني الآسيوية مع رفيقتها الشقراء أمام طاولة تطل على الشارع القوطي - ودخل أربعة شبان سألوا النادلة أن كان   يجلسون خارجا ليدخنوا السجائر كرفيقة غواية للقهوة، لكنها ردتهم بابتسامة: أن البلدية تمنع في هذه الجهة تحديدا التدخين، ولا أدري أيهما أكذب من الآخر، هم الذين خجلوا أن يقولوا أنهم أخطئوا بالمكان، أم هي مع حجة البلدية هذه؛ فبمجرد نظرة خاطفة للشارع القوطي تجد كل المناظر العجيبة فلم تقتصر على التدخين!

الآن أتى دور الشاي، لعل هذه التدوينة تبين، وأضفت له حليب، فصار حليب بالشاهي وليس العكس، كما ذكرت مع القهوة أعلاه، الناس تحب أن تعكسها، لكن الحقيقة عندما نقول شاهي بالحليب فهذا يعني أن مشروبك الأساس هو الحليب وأضفت له قليلاَ من الشاي، وهذا ليس صحيحاً البتة، فهي شاي زيته بقليل من الحليب، لكن الغريب في هذا الطلب أنه أضيف له قليلا من القهوة!

الحانة التي قبالة المحل العتيق هذا بدأت مبكرا في بث الأغنيات الصاخبة، وكأنها تريد أن تزعج السيدة بيث، التي دخلت توا للمحل!

السيدة بيث تشبه الممثلة فاديا خطاب شكلاً، بقبعة الملكة إليزابيث كحلية اللون، وجاكيت نسائي بني اللون دويل حتى الركبة، بنظرات تشبه نظارات بنجامين فرانكلين، اتضحت أنها أم الأولاد الذين يعملون هنا، وهذا عمل عائلي لوالدهما المتقاعد مؤخراً.

ثم دخلت شابة محجبة طلبت ابريق شاي فرحبت بها السيدة بيث بنفسها ، وخرجت معها وهي تحمل لها كعك انجليزي وجلستا خارجاً، وما زالت هذه التدوينة لا تبين!

- لماذا لا تبين؟

لا ادري، لكن الصبي قد نام، ومن كان يجلس عند الطاولة المطلة على الزقاق الخلفي قد خرجا، وأنا أحاول أن أسقي كلماتي بالأفكار لترتوي، لكن لعل الآن يمر علي من الاحتباس ما يمر على الشاعر أحيانا كثيرة، فلا تسألني.

الأكيد أن ما أرد قوله هو: أنه في أحيانا كثيرة تحتاج مساحة للبعثرة لكن بشكل فيه شيء من التنسيق ليبدو كأنه سيرة لأي يوم لديك وإن بدى مكررا أو هادى أو طبيعي، هل فكرت يوما إذا أجبت أحدهم بأنه: " لا جديد في حياتي" أن هذا هو كل الجديد! أنك في نعمة وعافية منه! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هنالك دوما تفصيله جميلة قد لا تشعر بها حينها لكن إذا استرجعتها تفطن للمميز فيها، مثل صورة عابرة لمصور فوتوغرافي، أو رسام رسم العصافير التي تكون تذكار لاي مسافر في مكان يبدو كمزار سياحي، مثل الشارع القوطي الذي عن يميني.

الان دخلت السيدة بيث والفتاة المحجبة لأن الجو بدا يصبح باردا وصاخبا في آن، طلبوا كعكة الغابة السوداء، وطلبت انا المزيد من أقراص الشوكولاتة المرة، وفي محاولة مني لصنع خاتمة لهذا النص قالت السيدة بيث بكل أرستقراطية:

سنغلق بعد ساعة أحبتي، عند الثامنة! شكرا لكم لدعمنا!

هنا تبسمت واخرجت هاتفي المحمول، ووضعت سماعات الاذن اللاسلكية واخترت أغنية مارسيل خليفة التي تقول:

يا سعدا خيرها بغيرها 

الحظ الهيئة معاندنا 

خمّنا الغلة بتكفي 

اتأملنا و تواعدنا 

كل ما بشك بهالدخان

 بقول يللا منحكي بكرا


تمت


كتبت في كارديف، ويلز محل السيدة بيث: بيت الشوكولاتة، الساعة السابعة وستة عشر دقيقة مساء يوم الإثنين الحادي والعشرين من آذار/مارس 2022م الموافق الثامن عشر من شعبان 1433هـ


وللتو دخل شابين ولزيين،...

- كيف عرفت؟

يتحدان الويلزية، شيء يشبه الإنجليزية لكنه غير مفهوم!



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق