الخميس، 24 مارس 2022

الليلة الأخيرة في سوهو

 عند الساعة السادسة كنا في شارع أكسفورد، ثلاثتنا، كنا في الليلة الأخيرة لنا في عاصمة الضباب، وكان أقصرنا يعاني ألماً في ركبته، بالرغم من أنه أبهانا منظراً وأجملنا شكلاً، لكنه حاول المسير وكنا نداعبه بقولنا: الضعيف أمير الركب.

أكانت الغاية من هذه الجولة هي شراء أخر متعلقات أو توصيات أو هدايا أو حلوى للعيد أو خلافه، لكن كان حظنا العاثر عند كل مدخل متجر من المتاجر يعتذر باقتراب السابعة، التوقيت الحرج أكثر من الثانية عشر بالنسبة لسندريلا، وكانت تستوقفني جداريات أتوقف عندها، فيسبقاني ساحبي في المسير، ثم ألحق بهم.

تذكرت موقف لأحدهم في عملي، ذات مرة قال: الآن فقط عرفت شعور المجنون! لكني لم أسأله أي مجنونا يعني، لكني في حضرت ذكرى المجنون حوله قال في تجلي ممثل مسرحي مونودرامي على خشبته العريضة: لعل ما حولي يذكرني بالمجنون، ولعل الذكرى لن تعود، هو سؤال لم يكن عابر وقوبل بإجابة عابرة، وكلما اتى ما يذكرني بالذكرى الأولى حضر المجنون!

أذكر أنني رددت عليه لا إرادياً بقولي: توسد تَوَسَّدَ أحجارَ المهامِهِ والقفرِ .. وماتَ جريح القلبِ مندملَ الصدرِ

فقام عني ولم يكلمني منذ حينها، فلا أدري هل نكات جرحاً أم دَمِلَ!


عند الساعة السابعة كنا في منتصف شارع أكسفورد، ثلاثتنا، وأشتد الألم على صاحبنا، الحقيقة أن هذا ما كان يحزن في كل هذه الرحلة، هو الشعور أن هنالك من كان ينظر لهذه الرحلة باستغراب كبير، وكأنه ليس من الطبيعي أن يزور صديق ما صديقه، لعل هذا ما تركم بتعثرات عديدة في هذه الرحلة، وزاد منها التعثر الحاصل الآن في هذه المحاولات الأخيرة للملمة شتات ما فات مم تمت تصويتنا به.

كان ثالثنا المقيم هنا، هو أشبه بدليل المتاجر، هذا جيد كخامات، هذا جيد كسعر، هذا تتوفر فيه قطع قد لا تجدها في أي مكان أخر، هذا رفاهية لا تتمتع بها حاليا، وغيرها من التعليقات، ومع اشتداد ألم الركبة هذا عند أمير الرحلة، تذكرنا كيف أن العلاج الأثير لدى السعوديين هو مرهم "الفكس" وتقديس السعوديين له قد يصل لمرحلة الشرك الأكبر - تعبير تهكمي - أما الشرك الأصغر فهو الفيفادول - أيضا تعبير تهكمي - فقلت له حين نعود سأعيرك المرهم لعله يخفف من وطأة ما تشعر به، لكن الآن تجمل وقلت: وَلا عارَ أَن زالَت عَن الحُرِّ نِعمَةٌ وَلكِنَّ عاراً أَن يَزولَ ... فأكمل هو يحتمل:  التَجَمُّل!

فضحكنا ونحن نبحث عما نريد!


عند الساعة الثامنة كنا في سوهو، ثلاثتنا وبدت نسائم البرد تداعب أجسادنا المنهكة، قليلاً قليلاً، ولم نجد شيئاً يستحق حتى الآن، ورغم صخب المكان المكتظ بالناس، إلا أنه يسعفنا ونحن نسير وكأننا أحطنا نفنا بهالة تبعد كل هذا الإزعاج المرير، فالإضاءة خافة، وأشكال الناس متنوعة بشكل مريب غير مثري، وبعض الأمكنة تجعلك تشك أصلاً: هل هذا أول الليل أصلاً؟ لكن بعد ضجيج المساومة عند المحلات، وازدياد لسعات البرد وشدة الألم، قررنا اختيار مكان يكون فيه العشاء الأخير للثلاثة، فتكفل دليلنا للمحلات التجارية باختيار المطعم، وقد كان!

كنا نمشي في جانب شارع طويل عريض حتى بممر مشاته، تقاطعاته كثيرة، لا تذكر أيهم أكثر هنا، السيارات أم الناس، وكلما افتتحنا حديثاً شعرنا أن هنالك من يستمع لنا، أما يريد أن يتبين اللغة أو أنه ألفها أو فهم موضوعنا، وهو شعور  مقلق أن تشعر أن بعض الأعين تراقبك، والجدران حولك كلها مجسمات عرض أزياء بلا عيون لكنك تشعر أيضا أنها تحدق بك، جدران المباني كلها صفراء مائلة للون السُكري، عدى بناء لاحظناه في أقصى زاوية على اليسار عند أحد التقاطعات كان خشبياً، كانه مدخل لبعد آخر داخل هذا الحي من المدينة، والرسائل على الأرض مكتوبة وبغمزة عين وسيجارة كتوقيع من كاتبها، وكل هذه العتبات تجاوزناها يمينا ولله الحمد حتى دخلنا زقاق انتهى لباب عن يمينه طاولات في تتمه الزقاق يساراً، كنت عليه أنه مطعم ارجنتيني، عنده حارس يعلك علكة بشكل مستفز أسمر البشرة من أن رأى أننا ثلاثة، قال وهو يعلك علكته وكأنه يجتر طعامه: هنا لا أحد يدخل بدون حجز مسبق، وهيئتكم المتعبة، لا توحي أبداً أنكم تحملون واحداً، ثم وإن كنتم ملتزمون بطلب المطعم بخصوص اللباس، .... ... الخ الخ الخ من الثرثرة المصحوبة بصوت العلقة التي تجوب فمه!

ووسط كل صداع هذه الصورة، قال له دليلنا: بلى هذا هو الحجز، هل تريد رقمه؟

قال الحارس: لا! لكن أعطه موظفة الاستقبال!

فجأة تحرك كرسي، فالتفتت رؤوسنا فجأة، لكنها الموظفة أيضاً نسينا أننا انتقلنا من بوتقة إلى أخرى إن صح التعبير، ثم دخلنا ولا يهم ماذا ألكنا، ولا عن ماذا تحدثنا، وهل كان المان مرضي لنا ثلاثتنا جميعا أم لا، المهم أنها ليلة ختامية لنا جميعاً نستطيع أن تحتفظ بها كذكرى تعلق على جدار الذاكرة!

فكما الخط نغم تعزفه يد فنان، فكذلك هي الكتابة تغم تعزفه يد فنان، وكنا نشترك ثلاثتنا في هذه بحيث نستطيع اختصار أمور كثيرة في كلمة أو اثنتين! 


أما دليلنا فكان شخصا طيبا بسيطا كانت فرصة معرفة أتت كالغيث المروي للأرض!

ورفيقي فقال: حتى يوم العودة الحافل، أتركني آخذ قسطاً من الراحة قبل أن نعد ترتيبات العودة سوية!

اما أنا فنظرت للمكان وسماؤه وقلت:

أغادرك الآن يا لندن، وقد تركت قلبي في أدمبرة، وروحي تطوف في كل أنحاء جزيرة آيرلندا، وما زال صوتها يناديني من جلاسكو!


تمت


آكتنن، طريق لوردن، لندن 

الأربعاء فجر الخميس الرابع والعشرين من آذار/مارس 2022م

الموافق الحادي والعشرين من شعبان 1443هـ

المكان: طاولة طعام جعلنا منها مكتباً

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق