الخميس، 26 يونيو 2025

محاولة لفهم سينما ويس أندرسون

 كيف نفهم سينما ويس أندرسون؟


تردد مؤخرًا كثير من التململ حول طريقة وثيمة وأسلوب ويس أندرسون في الإخراج بين متابعيه، وكأن لزامًا على المخرج أن يكون كل فيلم له قائم بذاته مستقل فيه تباين شديد، ومن المعيب أن يكون للمخرج طريقة واحدة ثابتة يلتزمها في تقديم موضوعاته بطريقة إبداعية.


بهذا المعيار، نستطيع أن نقول إن هاياو ميازاكي يعاني من ذات الدائرة المغلقة: بطل طفل وعالم غرائبي وحدث يقلب القصة رأسًا على عقب ونهاية سعيدة.

وقس على هذا مبدعين كثر، العوالم السفيلة ذات الأخلاق المعيارية عند سكورسيزي، الحوارات المطولة الفارغة عند تارانتينو، خطابات ستانلي كوبريك السياسية، سينما أوليفر ستون الموجهة، وغيرها وغيرها.


وهذا يجعل سؤالين يبرزان:

الأول: كيف نحاكم مبدعًا؟

كيف نفهم إبداعه؟

ونبدأ بالأول:

كيف نحاكم مبدعًا ما على ما يطرحه من أفكار؟

أنت لا تستطيع أن تحاكم مبدعًا ما على أي أفكار يطرحها لك من خلال عمل فني ما، لكنك تحاكم المنتج الذي أخرج لك به هذه الأفكار!

بمعنى:

- أنت لا تستطيع أن تؤنب ويس أندرسون لأنه يركز تارةً على الخيال الفني أو على البعد الثنائي لشخصياته أو أنه يتكلم عن الأحداث العابرة للشخوص...إلخ ويركز على جانب دون آخر؛ فهذه أفكاره هو أراد أن يناقشك بها ويتعاطى معك حولها بطريقة إبداعية جمالية، فإما أن تقبلها أو ترفضها أو تدخل معه في سجال.

- بالمقابل، تستطيع أن تقول له، لمَ استخدمت طريقة سبيلبيرغ التي تعتمد على الإبهار البصري في إخراج هذا المشهد الحواري، ولم تستخدم طريقة كوروساوا المسرحية في إخراج ذات المشهد.


في الثانية أنت تنتقد طريقة عرض المحتوى، أما المحتوى فأنت تتناقش فيه، وبين الاثنين بون شاسع!


المبدع عندما يطرح أسئلته ورؤاه عبر شكل فني معين، فهو ينتظر شيئين من المتلقي معاً - ( سواء أكان هذا المتلقي مشاهداً أو ناقداً ) - :

تعاطيك مع الأفكار ( الفكري منها والفني ) & نقدك لأسلوب الطرح ( في الشكل والمضمون )


والملاحظ على كل نقاشاتنا حول أعماله من تفضيل أو تحبيذ أو ذم فجلّه إن لم يكن كله يحوم حول حمى الشكل الذي يعتبر دوماً أنه مكرر أو غير تجديدي، وليس في سياق محاولة فهم أو تفكيك أو تفسير الشكل الذي أفرز لنا هذه الصورة!

المبدعون في الفنون ليسوا ككتاب الصحف!

لا ينتظرون آراءنا فيما يطرحون من فكر، ولا تقييمنا لها، بل ينتظرون تعاطينا مع الفكرة، وتقليبها وإثارة أسئلة جديدة عن طريقها!

أما كاتب الصحيفة كالسائس على مكتبه، وكخطيب الجمعة على المنبر، دائماً يكونون مهمومين في شكل التقديم لإيصال الفكرة، كي لا يمل المتلقي.


أما السؤال للثاني: كيف نفهم إبداعه؟

هنالك عدة اتجاهات:

١/ تجاه التأثر الشخصي، ولنأخذ مثلاً ثيمتين أو لونين يتكرران كثيراً في أفلامه: الكوميديا وعوالم الأفلام.

الكوميديا عند ويس تتعلق بالموقف الساخر أو التعليق الساخر، والتي نجدها كثيراً في أفلام وودي آلان، الذي يعتبر امتداداً للكبير تشابلن.

ولهذا، الصورة الممسرحة تخدم هذا الغرض، وطريقة سرد الحوار المونولوجية تخدمه كذلك، ولهذا تستحضر فوراً أفلاماً مثل أضواء المدينة أو ألعبها مرة أخرى يا سام، هذا الشكل من الكوميديا طاغٍ لدى ويس.


أما عوالم أفلام ويس شديدة التميز والخصوصية، قد تستصعب الولوج إليها، لكنك تكره الخروج منها، مثل عالم أليس للويس كارول.

هنا نستذكر مخرجاً تجد عنده هذا العالم المميز، سواء على صعيد الصورة، الألوان، الموسيقى، الأداء التمثيلي، وإن لم تشعر بارتياح تجاه أعماله.

رومان بولانسكي في أفلام مثل "الحي الصيني" كان عودة لأفلام النوار في فترة تركت هذه الأفلام بريقها، أو حتى التلقائية السهل الممتنع التي ظهر بها "ماكبث".

ترى ممثلين تعرفهم كأنك تراهم أول مرة، لحظات استثنائية تعلق في الذاكرة، ألبسة عابرة لإطار الصورة، وغيرها من المظاهر التي تجدها في سينما شرق أوروبا التي تخلص للحالة.

٢/ الموسيقى التصويرية، كحالة مخرجين كثر، الغاية من استخدام الأغنية أو الموسيقى محددة في ذات اللحن المختار أو الأغنية.

مثلًا، ظهور أغنية "بانغ بانغ" في فيلم "اقتل بيل"، أو مثلًا أغنية "الرجل الذي باع العالم" في لعبة "ميتال جير سوليد" أو غيرها من الأمثلة، هذه الاختيارات ليست عبثية، حيث إنها إعادة توظيف لمعنى آخر متجرد تعيد توظيفه داخل العمل الخاص بك، مثلما تجد في القصيدة معانٍ أخرى تعيد توظيفها.

كما يصنع الشاعر نفسه أو مخرج الفيلم رمزية جديدة من معنى يحمل معنى آخر، وهذا هو ذاته ما يصنعه ويس في أفلامه، مع الوقت تصبح هذه الموسيقى أو الأغنية لا تُذكر إلا بهذا العمل، وكأنها أُلفت خصيصًا لهذا العمل، ولهذا العمل فحسب، وبالتالي يستطيع توظيف كل المعاني الممكنة من خلالها وكأنها تخصه.

٣/ البعد الإبداعي الجديد، إذا صح التعبير، حيث إنه يقدم هذه الأفكار بطريقة غير مباشرة ويبعثرها وعليك أنت تجميع الصورة، من خلال التوحد مع الصورة أو الفكرة، ولكي تتضح الفكرة أكثر، لنأخذ مثلًا فيلم بليد رانر لريدلي سكوت، كيف أنه قدم فكرة الدستوبيا في شكل فيلم ملحمي.

أو حتى مثلًا سيرجيو ليوني في أفلامه الخاصة بالغرب الأمريكي، فهي عوالم جريمة خاصة، كأنها عوالم سكورسيزي، لكن لها قوانينها الخاصة من الغدر والخيانة واستغلال الفرصة، والتي لا تجدها في أفلام الغرب الأمريكي التقليدية.


أتصور هذه أبرز ثلاث محددات تساعدنا على فهم والتمتع بسينما ويس أندرسون.



ختامًا: لا ضير أن يكون للمخرج أو للمبدع أسلوبية خاصة فيه أو مدرسة أو مذهب يختص به ويستمر في تقديمه والترويج له، لكن العبرة في جودة ما يقدم وتماسكه.


أ.هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق