الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024

هاجس حول ماهية الصحافة التقليدية!


يخيل إليَّ أحيانا كثيرة، أن هذه الفكرة المطروقة لم تحرر بشكل كافٍ، فلم لا نجرب هذا!


طيب ما هي الصحافة التقليدية؟


اذا المقصود بالتقليدي ادوات النشر بمعنى الورق والبث التلفزيوني والاذاعي، فهذه ادوات بعضها تطور وبعضها على ماهو عليه

الورق صار ورق الكتروني، والنشر تحول كذلك ايضا، وصارت المنصات بديلا لمنافذ البيع.

والبث المتلفز صار بثاً على اليوتيوب او ما شابه

و الاذاعة، اليست بثاً صوتيا؟ بم يعرف البودكاست عادة؟ بث صوتي! والبث الصوتي هو ثاني اداة اعلامية بعد الورق ظهرت للعيان وبقيت صامدة ومتزنة وتصقل المواهب وتغذي التلفزيون أيضا!


إذا ما المقصود بالتقليدي؟


ان كان التقليدي هو طريقة العمل، فالتحقيق الصحفي وصحافة الرأي والخبر الصحفي والاستقصائي والتحليل والحوار، هذا كله كان موجود سواء كمقروء او مسموع او مشاهد.


إذا نعيد السؤال، ما المقصود بالتقليدي؟ وجوه وأماكن؟


جزء من عملية التراكم المهني، هو الامتداد والبناء عليه، وللتوضيح، كلنا شاهدنا ممسك الدفة في قناة سي ان ان بعد لاري كنج، بيرس مورجان

وفي الواقع المحلي توجد حالات مشابهة في التلفزيون.


فما التقليدي؟

يخيل إليَّ باختصار انها تعني في المضمر: السابقة لنا!


هل البث الاذاعي المتلفز صحافة غير تقليدية؟

أم أن شكل مزج النص المكتوب مع الصوت والصورة  في مادة واحدة هو الذي يجعل الموضوع اننا امام طريقة حديثة؟

مثال:

 مقال فيه فيديو وفيه روابط تشعيبية او موسيقى


النشرات البريدية؟ الا تعتبر شكل من اشكال النشرات او التحقيقات او الملاحق الصحفية؟

 

الصحافة او الممارسة الاعلامية لم تتغير، كليات ومدارس واقسام الاعلام ...الخ بغض النظر عن طريقة نشرها

مثل مهن كالمحاسبة مثلا بدلا عن دفاتر اليومية وملحقاتها تعد يدويا، صارت تستخدم برامج هي من تقول بالتحليل البياني، لكن من المدخل؟ ممارس للمهنة مطور لأدواته؟


سؤالٌ صعبٌ سؤال يراودني!

الاثنين، 11 نوفمبر 2024

جاري اللبناني

 

الشقة الأولى

ليس رقما للشقة، لكنها الأولى عندما ادخل للسكن، الأولى لناظري على الأقل، لا اراديا التفت اليها، كلما دخلت من المدخل الرئيس للسكن.


هذه الشقة منذ أن هُجِرَت لأسباب اجتماعية-اقتصادية وهي لم تسكن، وظلت هكذا، بابٌ مغلقٌ كأنه مدخل الى حكاية قادمة من عالم موازي.


تمضي الأيام، بين مغادة القصواء للمكان - (القصواء هو اسم سيارتي الأثيرة التي كانت دائما ملاذا لي في ملمات الأيام، سميتها كذلك تيمناً بناقته عليه الصلاة والسلام) - فقد كانت مأمورة بالرحيل، وغادرت في الخريف، تاركةً صورتها باقية في ألبوم الصور.


وفي ذات ليلةٍ طويلةٍ بعد يومٍ حافل، بينما كنتُ أومئ، بالكاد أغفو، لم يظهر لا غراب ولا بوم ولا حتى نورس بطبيعة الحال، التفت لهذه الشقة الأولى، لأجد:

مجموعة من قوارير مياة دورق لبرادات المياه

وبالونات اربعة معلقة على الجدار

ولوحة جدارية

وسجادة على المدخل مكتوب عليها مرحبا بالانجليزية

مهضوم كتير هالجار!


بعد اسبوع، وانا خارج للعمل، وجد قد كتب على اللوحة:

"اللهم انبته نباتا حسنا!"

سألت جاري الفضولي، قال لي: بالأمس، جائت سيارة اسعاف، لأن زوجته ولدت صبيا في البيت!

قلت: اسعاف والا دايه؟

قال: لا اسعاف يا رجل! وجلسنا نضحك!


عدت ليلتها من العمل، وصادفته, فكان الحوار التالي:

- اهلين جار!

- اهلين جار!

- الحق نجيبلك قهوة وشاهي، لكن ما شفتك، لكن جبنالك تمر، بالاحرى عجوة! شوي اجيبهالك!

- تسلم! كتر خيرك! 

- ولو جيران النبي لازم!

- عليه الصلاة والسلام!


وذهبت للبيت، ولكن داهمني "call of duty" بين مزدوجين كما يفضلها مدرسي اللغة العربية من الجمهورية!


وبعد انتهاء الواجب، حملت كرتون التمر، ودققت الجرس، ولا من مجيب!

التفت للوحة، وجدتها قد صارت: " اللهم انبتها نباتا حسنا!"

تركت الكرتون عند الباب، وانسحبت من المشهد بهدوء ...


في صباح اليوم التالي، جائتني رسالة صوتية من رقم غير مسجل فحواها:

"أهلين خيي، كتر خيرك، ويجزيك الخير، صار لازم تشرفونا, ما تعرفنا اسمي ابراهيم!"


فرددت برسالة صوتيه مفادها: "ولو، خير الله يا خي، ابشر ان شاء الله"


وانا في الطريق الصباحي المعتاد، اخترت اغنية: برهوم حاكيني لنجاح سلام!


كانت فرصة سارة سعيدة لها -اي الأغنية- 



تمت


بين أصالة وأصيل محاولة حديث عن تكوين شكل فني يعكسنا

  


بين أصالة وأصيل

محاولة حديث عن تكوين شكل فني يعكسنا


بعد كل مشاهدة لعمل سعودي حديث، لابد أن يعود الحديث بنا لأشهر عمل انتجته الدراما السعودية، وهو طاش ما طاش!


 ولعل هذا يبرز سؤال: ما الذي جعل طاش يعبر في الزمن حتى مع جيل ربما لم يعايش هذه التفاصيل جميعها؟

الإجابة باختصار: القدرة على عكس تفاصيل الحياة!


ولعل هذا يدفعنا لسؤال أشمل: ما الذي يجعل العمل الفني أصيلا نابع من البيئة والمكان؟


الفيلم هو يحكي حكاية او حالة، مُعاشة أو عِيشَ في محيطها، وتترجم هذه الحكاية او هذه الحالة بشكل درامي مصور، يكون فيه صراع وصعوط وهبوط وتحول الخ


ولكي نترجم هذا المعنى بشكل اخر، لنستحضر قصة 


وصف وحشي بن حرب قٕتلُهُ حمزة بن عبدالمطلب أمام النبي، اذ يقول:


" فخرجت مع الناس، وكنت رجلاً حبشياً أقذف بالحربة قذف الحبشة، قلَّما أخطئ بها شيئاً، فلما التقى الناس خرجت انظر حمزة وأتبصره، حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق، يهدُّ الناس بسيفه هدَّاً، ما يقوم له شيء، فوالله إني لأتهيأ له، أريده وأستتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فضربه ضربة كأن ما أخطأ رأسه، وهززت حربتي، حتى إذا رضيت منها، دفعتها عليه، فوقعت في ثنته، حتى خرجت من بين رجليه، وذهب لينوء نحوي، فغُلب، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت إلى العسكر، فقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، وإنما قتلته لأعتق"


هذا الوصف المطول، المليء بالتفاصيل البصرية والمشاعر المختلطة، والتفاصيل الشخصية، سواء للمتحدث أو المتحدث عنه، وكأنك أمام تمظهر مسرحي أو مشهد سينمائي، ولو تخيلت المنظر أمامك لما تحاوز الخمس أو العشر دقائق، لكن الراوي فخم الحالة كي يعطيها البُعد الذي يريد.


هذا هو صنيع الفن السابع، هو أعادة خلق الحالة، أو الحكاية، وترجمتها بصريا بحيث تعكس واقع راويها.


وبالتالي من هذا التعريف والمثال نخلص الى أن الصورة يُستطاع أن يعبر عنها أنها رباعية الابعاد!


البعد الأول: المكان!


يجب أن يكون المكان حقيقيا، يعكس طبيعة الحبكة والشخصيات، مكان نابض بالحكاية مثل مزرعة البكتيريا، يسمع للشخصيات بالتفاعل فيه وصنع الحد


البعد الثاني: ايهاب الشخصية


يجب أن تكون ابن بيئتها، تعكس التفاصيل في كل تفصيلة فيها، من ملبس، تصرفات، لغة، لهجة، ال


البعد الثالث: زمن الحدث


يجب أن يعبر تعبيرا منطقيا عن سير الحدث، سواء كان الحدث واقعي او موازي، متخيل او حقيقي، لكن صيرورة القصة فيه تكون منطقية ومحكمة


البعد الرابع: اللغة المستخدمة


وفي اللغة نعني أمرين

الاول هو الورق المكتوب

والثاني اللغة البصرية وهي ترجمة ما هو مكتوب الى صورة ناطقة


وبالعودة لمثالنا السابق -اعني وصف وحشي لقتل حمرة- كيف ترجم في رائعة العقاد: فيلم الرسالة ١٩٧٣؟


جيء بالشخصية صامتة في مكان منبسط حولة جبل ممتد، بلباس بسيط يعكس حال العبودية، حاملا حربته، يبحث عن هذا الفارس المميز، الذي كلما هجم عليه احد لا تراه الا ساقطا من قوة ضرباته، فرفع الحربة وهزها ثلاثا، حنى استقرت اسفل بطنه، وقد تلقاها بصدمة شديدة، والتفت لقاتله لثوانٍ ثم ما لبث أن خر صريعا، فجاء إليه، فأخذ حربته، وخرج من المشهد!


هذا المشهد، وظف كل هذه العناصر التي ذكرناها آنفا، حتى في نسخته الانجليزية، لم يتغير عليك أي شيء من تفاعلك تشاه المشهد، كذلك استطاع ان يعكسه بصريا في صورة صامته، الا من موسيقى مستوحاه من صوت الآذان تخللت المشهك، عندما خر الحمزة صريعا.


ولعلي اجد في هذا المثال جوابا للسؤال الأول؟ وهو كيفية عبور عمل ما للزمن، والبقاء فيه خالدا!


تستطيع أن تسقط هذا المثال، على أي نوع قصصي تريده، اصلي او مقتبس!


وبالعودة الى طاش ما طاش، طاش حتى في الحلقات الخيالية (مثل الزار او الغرب الأمريكي) أن تعكس الثقافة والموروث.


ففي الزار مثلا، هي تتحدث عن العالم الماورائي الذي يتحدث عنه رواد جلسات الخبيتي والسامري عن طريق فكرة العالم الموازي


أما الغرب الأمريكي فتم عكس فيه البيئة البدوية والقروية المحلية في ثوب وايهاب الغرب الأمريكي، وكأنها سعودة لرواية أمريكية!


هذا غير انها شملت نواحي حياتية كثيرة، من يوميات الحياة الى قصص عابرة، وصولا للحديث عن قطاعات معينة كالاعلام والتعليم وحتى عوالم حياتية قريبة، كاليوميات العمال او الوافدين الخ


اذ انه استطاع التعامل مع هذه الأبعاد الاربعة، برشاقة مميزة حسب الظرف الموضوعي لكل حكاية، بدرجات متفاوته لكل بعد


لكن لا ننفي عنه السقوط في فخ المتخيل عن عالم ما، مثل حلقة طلاب الجامعة على سبيل المثال، فهي لم تعكس الواقع المعاش للطلاب في الجامعات في حينه، والسبب كان الاخلال بأحد هذه الابعاد، وكان في هذا المثال، بعد المكان!



ختاما:

فكرة قول الناس أن العمل يشبهننا، لا يعني ان يتم تصويره في مدينة ما، او مكان ما، او قصة معاصرة، انما ان يكون نابع من البيئة نفسها، يعكس تفاصيل الحكاية بكل حيثياتها، تشعرك وكأنها سالفة صديق او حكاية لجد معمر للحفيد!


 


تمت


الثلاثاء، 22 أكتوبر 2024

Megalopolis 2024 - كيف غادرتنا هكذا؟

 

يفتتح الفيلم بمقدمة عن مدينة روما الجديدة، والتي يقطن فيها شخص يريد تحقيق يوتوبيا مدينة جديدة داخل هذه الامبراطورية التي تغلغل فيها الفساد ونخر في جذورها حتى يصبح افضل حل هو تأسيس مشروعه جديد!

تسير مع الفيلم لتكتشف مهزلة هذه المدينة، ومهزلة صاحب الحلم الذي يريد تأسيس لمدينة جديدة ذات ثقافة جديدة ايضا، لكن هنالك ما يؤرق كل هؤلاء الناس!

من هم هؤلاء؟

هم كل من أحاطوا في هذا الفيلم!

لكن قبل الحديث عن كل هؤلاء، لنتحدث عن البعض الأول!

الفيلم يتحدث عن سيزار الذي يدخل في صراع مع عمدة المدينة الحالي، يرغب فيه أن تعود مدينتهم لتكون كمدينة فاضلة تلهم الناس للحياة الرغيدة والأبداع عن طريق فكرتين عكس بعضهما تتصارع، عمدة مدينة حالية يديرها برؤوس الاموال والترفية والاستهلاك المادي والصيرورة اليومية للقطيع الذاهب للعمل، والاخر الذي يريد بناء يوتوبيا تشع للعالم اشعاع نيويورك ومثلها روما في سابق ايامها قبل ان تغرق في وحل المدنية، مدنية تساوي بين الجميع بفرص للجميع، هذه المدينة الحلم تُدعى: ميجالوبوليس!


الفيلم جاء كقصيدة نثر، مغرقة في الترميز حتى كادت ان تصبح بلا معنى، الفيلم تحدث عن كل شيء ونسى بقية الاشياء، انه هاجس المبدع الذي يريد أن يصنع فيلما تعبيريا يحمل كل الأفكار التي حملها عبر سنين العمل والخبرة الطويلة ليضخها، متحررا من كل قيد، الفعلي والمعنوي والمجازي، الفني والابداعي والمادي، حتى الذاتي!

خرج لنا الفيلم يحوي هذه النزعات، نزعات داخل جعبة ذاته التي تتفجر تعبيرا، قلبٌ يعبر بقلق عن المستقبل، لا يحيا ولا يموت، ينبض ابداعا، لكن بلا روافد يسقيها!

لا أقول هذا الكلام كي أُجمل الحالة، أو أنعتها بالسوء، لكن هذا لسان الحال، تدهشك اللحظة وتنفرك في آن واحدة!

تقول في نفسك: هذا فيلم لفرانسيس كوبولا، ثم تقول: أهذا هو فرانسيس مخرج العرّاب والقيامة الآن ودراكولا؟

الفيلم جاء كرسالة مناضل بلا عنوان، ولم تكتب سيرته لأنها ضاعت وسط زحام الثورات، الوهمي منها والحقيقي، كما في قصة الفيلم!

بل منشور سياسي رُمِيَ لأناركي لا سلطوي يردد بصوت عالي: إني أسير لأفك قيد البطل الأسير؟

لكن أين البطل؟

البطل ضائع في ترجمة الصورة الفنية!


حضرنا الفيلم وهو يحوي قصة كقشرة ثمرة الأفوكاتو، رقيقة، تحافظ على الثمرة، التي ما ان تلمسها حتى تنهرس بين يديك، ويتبقى قلب صلب، تضربه بحد السكين حتى ترميه!

الفلم اوجد قصة مليئة بالثغرات ولم يتكلف لترميم الصورة بل ترك الفراغات تتسع كثقب أوزون، لا تجدي كل محاولات الحفاظ على البيئة لرتقه!

مليئ بالرمزيات والرسائل والايحاءات والاحالات، من الربط بروما القديمة حتى جدوى الفن، من الرمزيات التي لا يمكن ان يفهمها الا نيويوركي فضلا عن امريكي، الى الرمزيات العامة التي تجمع الجميع، كالوقت!

إذا ما الذي يقوله الفيلم؟

لا أدري! هذا هو لسان البعض الثاني الذي نريد الحديث عنه!

خرجت من الفيلم، لستُ نادماً ولا آسفاً، بل على العكس، سُعدت بالتجربة، تجربة تقول لي: لا تسألني عن عنوان، أنا كل العناوين في كل الأزمنة!

خرجت مذهول! بكل ما تحمله الكلمة من معنى! ذهول الدهشة، ذهول الاستغراب، وربما يتخلل معاني الذهول، ذهول الاعجاب! وربما يتخلل هذا الاعجاب اعجاب خفي بمبدع مُقامر، برغم عملك في قرارة نفسك: أنها رسالة إنتحار!

رسالة انتحار مفادها:

" قُلتها!

لا أصدق!

ما زال يحوك في نفسي منذ أمدٍ بعيد!

ولكني قُلتها!

أنا الآن كنسمةِ ريحٍ عابرة، في صباح يحمد فيه القوم السُرَى"


خرجت وهذه المراجعة تحوك في نفسي، وفي الجو البارد تحاول أن تختمر، حتى تفتقت!

وتقصدت كتابتها هكذا، حتى تكون موازية لحالة المشاهدة رغم تعبيرها عما كان في الشاشة الفضية، فهي موازنة لفيلم فني تعبيري، فنحاول كتابة مراجعة تعكس هذا الشكل!

خرجت من الفيلم وانا اقدر لفرانسيس فورد كوبولا ثلاثة اشياء:

الأول: أني حضرت له أخيرا فيلم حديث في السينما بعد العراب، فهذه تجارب تستحق مهما كانت النتيجة!

والثاني: انه أعاد لي لحظات التقاشات التي تمتد اثناء وبعد الفيلم، وأفكار حول اعادة المشاهدة من عدمها في خضم الحديث، والمآلات وحديث عن افلامه ومسيره، وجائت مع مخرج في مقامه.

الثالث: أنه زاد في تقديري لرفيق دربه وحامل همه وهم مبدعي الفن السابع، مارتن سكورسيزي فوق مكانته عندي! الرجل الذي ما زال يصقل الماس في خانه الأثير.


وكما قال الشاعر:

فترسم خارطة المستحيل لتحرقها في لفافة تبغ ، وتمضي الى غاية مشتهاة

كيف غادرتنا هكذا ، وانت وحيد ٌ، دونما لحظة ِ للوداع ، دونما لحظة للوصية ... دونما همسة للرفاق 


أرجان ماري



تمت المراجعة في ٢١ اكتوبر/تشرين الأول

مطار هيثرو - لندن

الأهداء: لرفيقي الذي يكره لحظات الوداع

إنما هو كما قالت هي حين كذا ... الوداع

قلت: إلى لقاء؟

قالت: إلى اللقاء



الأربعاء، 16 أكتوبر 2024

في ثلاثة أيام


في تلك الليلة الباردة، وبجانب حديقة تقبع فيها كنيسه عتيقه، كانت جلسة حديث مطولة، وكان القمر يطل علينا بنوره كبقعة ضوء على خشبة مسرح ...

طار غرابٌ فوق الشجرة،

ثم صوت ينادي،

صوت كأنه يستجدي،

كزائر متأخر،

يستجدي،

لا أحد، ولا غيره معنا،

ويستمر الصوت يخترق الضباب والبرد،

لكن الصوت ينادي، ينادي للاستمرار، بغض النظر عن المسألة المراد الاستمرار بها،

وفي تلك اللحظة الفارقة،

وعبر سواد الليل الحالك، تَحَلّق الصحب حول ابريق شاي، يتبادلون حديث اسميه: مكاشفة الذكريات!

والكل كان يردد قصيدة قديمة، 

قصيدة لا يهم ما فيها ولا من هو قائلها، لكنها تعبر عن حال المقال!

السفر والغربة والترحال، فيها شيء من ألفة غريبة، ومد حبال مرتخية لروابط، وعودة شعور الطفلة التي تغريها الهدايا،

لكن في ثلاثة أيام، تنقلنا في رحلة كرحلة الياس بوفين في الكتب التي التهت والده، فيفالدو!

ثلاثة ايام احتاج هذا النص كي يولد!

دوما في هذه العاصمة المقيته تتعسر الولادة، حتى العملية القيصرية لا تجدي نفعا!

لعله البرد، والضباب الذي يسحب روح النص!

لكني احتاج أن أرمي دواة الحبر على قرطاس الناسخ!

ثم نعق الغراب!

تبا! لعنة الأيام والدنيا عليك!

قالها الناسخ وصاحب الدواة وكاتب الأسطر!

- والثلاثة الذين تحلقوا؟

- هذه الآلة الكاتبة لا تتحرك! دعني أصلحها وأكمل في متجر ناسخ آخر



 .. ستتم لاحقا أ.هـ

السبت، 12 أكتوبر 2024

في سلم الطائرة

 في سلم الطائرة


في المطار

هذا المكان كالبرزخ

انت فيه كأهل الاعراف

وفي انتظار سلم الطائرة كي تصعده


كما لو كان ميعاداً

لكنه ميعاد ضميره مستتر تقديره هو

اما الميعاد الاخر هو ميعاد مضمر كمعنى الشعر


فجأة وسط حديث بالهاتف الجوال، عن هزائم الصداقة، وتطلعات لملمة الهشيم، وجدت يده على كتفي متكئاً، ثم التفت نحوي بابتسامة، فاغلقت هاتفي، وتبادلنا التحايا الحارة، وبدا لي أن لحن رحلة مدن الذهب يعزف في الخلفية، وكنا ايضا نتبادل حديث الخيبات، خيبات من نوع آخر يختلف عما كان في حديث الهاتف، لكنه حديث وموقف يعيد لنا ذكريات من أيام العمر الماضي، ولكن في وسط حديث المستقبل في غرفة التدخين، يتملكك شعور مختلف، شعور كلما حضر، تغمرك سعادة كأنها سعادة الأبدية؛ شعور ان الزمن توقف! أن هذا الشخص والحديث معه، والجلوس اليه، يعيد اليك ذات الشعور الأول، اللقاء والتعارف الأول، الخصومة الأولى، السفرة الأولى، الرحلة البرية الأولى، حتى الاحزان الأولى من رحيل عزيز او فقد صديق!


عجيبة هذه الذكريات كيف تفعل فعلها فينا، كيف تقتحم عليك فجأة بانهمار، كأنه مطر العاصفة، وتزداد قوتها عند رؤية احدهم، يكون منك قريبا، قرب حبل الوريد.

فاذا اقتحمت عليك، فهي تدخل بلا استئذان، تلج كرمح وحشي بن حرب في جسد الحمزة! لكن لا تغادره، بل تنزوي مع مجموع الذكريات الاخرى التي تحبسها في ذاكرتك!

لكن استعادتها دوما جميل، لانك تستعيد معها كل اللحظات التي تحيط بها، مثل صورة غريبة صورتها بكاميرتك الفورية، او هاتفك الجوال، فكلما نظرت اليها تذكرت كل ما استدعى لها.

لكن الفارق بين صورة الهاتف والكاميرا الفورية، ان طرف الصورة قد يكون محروقا، هذا الحرق هو سن الرمح الذي اخترقك، فاحترقت!


على كل حال، ها هو بجانبي الان في مقصورة الطائرة يغط في نوم عميق كالأطفال، متجهين الى وجهتنا.


وهنالك في أقصى الغرب، أحد المحامد السبعة، يتجهة الى وجهتنا، محملا برغبة جامعة للقيا، رغبة وجدت من يلبيها، الصداقة الحقة عافية، والأصدقاء اوطان صغيرة، وقد قال شاعرنا القديم:

بلادي وان جارت علي عزيزة واهلي وان ضنو علي كرام


وقد يكون لهذا الوطن قائد هُمام، يرفع الراية دوما نحو المبتغى.


فهذه الدنيا رحلة على متن طائرة، قصيرة رغم طول مدة الرحلة، لا يبقى منها الا الاحاديث البينية، والذكرى الطيبة!


آه صحيح! كدت انسى! بقيت مني جذوة خلفتها في مدينتي، اسمعها تناديني تعال!


و، نعم! كانت أغنية الرحلة: 99 Luftballons

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2024

Joker: Folie à Deux 2024 - ولا يزال الكمنجي يعزف سمفونية النشاز!

 
يفتتح الفيلم بمشهد كارتوني من حلقة لسلسلة الجوكر معنونة بـ: انا وظلّي، لتأتي المشاهد الكرتونية للجوكر يسير لكن ظلّهُ يشاكسه، حنى ما اذا دخل الغرفة، قم الظل بحبس الجوكر في خزانة الملابس، والظل يردني لباس ومكياج الجوكر ويرج للناس في العلن، يقتل منهم من يريد، ويمازح من يريد، ويغازل من يريد، حتى اذا كثر الهرج والمرج، تجيء الشرطة لتقبض عليه في اللحظة التي يهرب بها الجوكر من الخزانة لينتم من ظلّه الذي سلبه حريته، حتى اذا اقترب أفراد الشرطة، يعود الظل ليقترن بالجسد، ثم يدخل أفراد الشرطة، وينهالون ضربا بالأحذية على الجوكر حتى تتناثر دماه على الشاشة، ويسدل الستار الأحمر معلناً النهاية!

ثم يفتتح مشهد حقيقي من ممر مصحة أركام ....،

 لا يهم أي شيء يأتي بعد هذه اللقطة، فالفيلم كله شُرِحَ باختصار في المشهد الكارتوني، لتأتي بقية الأحداث والسرد القصصي تحصيل حاصل - هذا اذا سلمنا بوجود سرد قصصي في الفيلم - 

من السخرية ان يكون الفيلم الكارتوني افضل تمثيلا لمآل الجوكر من بقية الفيلم!
اذ ان الفيلم جاء كما لو كان نسخة متخيلة عن تطور قصة الجزء الأول، تكملة متصورة متحرره من اي ارتباط بجزء سابق، وكأنه مستلهم من عنوان الفيلم الفرعي الذي لم يأتي بمسمى "الجزء الثاني" بل بعنوان فرعي معناه: جنون للمنتهى!

وسط مقايضات السجانين للسجائر مقابل النكات، فجأة تقفز هاري كوين في المشهد، وكأنها تعرف آرثر/الجوكر سلفا، من دون اي تبرير او تقديم منطقي، وتهيم به ايضا!

ثم تستمر المحاولات الاصلاحية لآرثر، ومحاولات تقديم حالته الصحية إعلاميا، كي يتم تقيدمه لمحاكمة عادلة، وخلال هذه المرحلة من الفيلم، تتطور علاقة آرثر وهارلي، هارلي التي تحاول ايقاظ الجوكر النائم في داخل آرثر، في مقابل المحامية التي تصر على كبت هذه الرغبة القاتله داخله.

ثم تتقلب كمشاهد بين المشاهد الاعتيادية للحاله، وبين الاغنيات، الاغنيات التي أتت كعالم الاحلام، أو الخيالات أو التصورات التي يريد الجوكر أن يعيشها وليس آرثر، لكنها أتت مقحمة مفتعلة الا من اغنيتين كانتا الوحيدتان اللتان تعبر حقيقة عن حالة الشخصية، أما بقية الاغنيات، هي مجرد الاستمرار للحالة، ليتحول الأمر إلى مجرد حشو، شحم متراكم لا فائدة فيه!

أما الاغنيتين فالأولى هي المازح هو أنا (the joker is me) التي غُنيت في المحكمة، اذ انها ترمز للفكرة التي راودت آرثر حينها في المحكمة، جعلت من الجوكر أن يعاود الظهور من جديد بصورة طاغية، ويتغلى عن ممثله القانوني، ويمثل نفسه كجوكر! ويتعامل مع المكان كنادي للكوميديا، برنامج توك شو الخاص به!

أما الثانية، فقد كانت الاغنية التي جمعت الجوكر بهاري كوين في البث التلفزيوني الخاص بهم، والتي انتهت بأن باغتته بطلقة مسدس في بطنه ليتسمر في ذهول من الموقف، ولم تكتمل الصورة الا في نهاية الفيلم.

باستثناء هاتين الاغنيتين، كل الاغنيات الباقية جائت مقحمة وحشو لا طائل منه الا محاولة ادخالك في هذه التجربة من الذهان السينمائي عنوة، والتي للأسف كثيرا ما تخرجك من حالة المشاهدة، ثم تعود عندما تعود المشاهد الأعتيادية!

تستمر المحاكمة لآرثر حتى بيان الدفاع الختامي، ليقرر آرثر أنه قتل الجوكر الذي بداخله، باعترافه اخيرا للعلن، أن عدد ضحاياه، ستة، احداهم والدته!
والدته التي كان مشهد قتلها في الفيلم الأول ما هو الا تجسيد لفك الارتباط بين كل القديم وكل الجديد ليعلن ميلاد الجديد من رحم موت القديم، الجوكر مقابل آرثر!
يأتي اعتراف المحكمة، لتأكيد ذات الفكرة، فك الارتباط بين كل قديم وجديد، وأعلان عودة القديم من رحم الجديد مجددا، قد قُتِلَ الجوكر معنويا، وبقي آرثر الجسد!

هنا تتخلى هارلي عنه، وتنسحب من المشهد، مشهد الجوكر، وتترك آرثر، كما تركه الكل كما يقول هو دوما، ولكنه لم يتركها، رغم تركه لحلم النجم الكوميدي خلفه، في عالم الأغنيات والأحلام.
ليأتي مشهد النطق بالحكم، وخلاله يحدث تفجير هستيري يهرب منه آرثر، فيتلقفه احد المعجبين به، ويساعده في الهرب، واثناء استعادة الوعي مما حصل، يستوعب آرثر شيء ما، وهو أن الجوكر الذي قتله في المحكمة، قد مات مجازيا، لكن بَقِيَ الجوكر الفكرة!
فكرة المجرم الذي يمثل الشر بحملهِ ويجزيه بمثلهِ!
كلنا جوكر، كما كانت تقول الأغنية! المازح هو أنا (the joker is me) من مجرمين ومقهورين ومهمشين وغيرنا، ممن ينتمون لذلك القاع الذي لا يريد أحد أن يطل عليه!

فيهرب من السيارة ليبحث عن حبه التي قد قالت له مره في احدى زياراتها له خلال جلسات المحاكمة، انها حُبلى، ليجدها انها تودعه، فهي احبت الجوكر وليس آرثر! ولهذا غيرت زينتها في دلالة على ولادة جديدة لشخصيتها!
فيؤمن يقينا ارثر، أن مكانه هو مصحة أركام لا يغير، يقايض النكات بالسجائر.

ليأتي في النهاية، احد ابناء مصحة أركام، المعجب الخفي كي يقول له نكته مفادها، ان هنالك رجلا رفض الاعتراف بكينونته في لحظة فارقة، فقرر احد محبي قتله! وتلقى الطعنات الأخيرة وهو يهذي، ليعود لاغنية الاحلام في بثه مع هارلي وهو منذهل من انها قد اطلقت له رصاصة في معدته ليقول لها اخر نص في الأغنية: أريد وريثا!
ثم يسقط أرثر ميتا! وقد ترك وريثا للجوكر، لا له، وريث ايضا تخله عنه ولم يتخلى عن الفكرة، وبقيت المدينة حتى اخر لحظة ترفض آرثر!

الفيلم فيه حسنات مغمورة في بحر سيئاته، بمعنى اخر الفيلم كسابقه لا يزال مقلق ومربك وتائه ايضا! بالرغم من وحود جوانب اجادة، تجلت مثلا في توظيف الاغنيتين وتمثيل الادوار الرئيسة، والمشهد الكارتوني، ومشهد الختام، لكن بدلا من أن يكون كسابقه كأنه سمفونية متكاملة فيها عازف كمان يعزف نشاز طوال الوصلة، أصبح هنا عازف الكمان هو المايسترو الذي يوزع النشاز طوال السمفونية!

ومما زاد في حالة التيه، هو هذه الاصرار على الاطالة رغم امكانية الايجاز وتركيز الفكرة، كي يكون امتداد طبيعي كجزء ثانٍ، لكنه قرر أن يتعامل مع الحكاية بزاوية الذي ينظر للقصة من بعيد، وكأنه ليس من نفس المبدع الذي أخرج الفيلم الأول!
حتى أن الفيلم لم يوظف الأدوار التي اسندها لنجوم مهمين توظيفا جيدا، مثل بريندان جليسون (مأمور المصحة) أو ستيف كوجان (المذيع الذي اعد اللقاء مع آرثر في زنزانته) ويغلب على ظني أنهم جاؤوا لخوض التجربة ليس إلا.

أما خواكين فينكس، فبالرغم من مشاركته في فيلم Walk the Line 2005 (وهو فيلم غنائي عن مسيرة المطرب جوني كاش) إلا أن أداء الاغاني في هذا الفيلم، يجعلك تتسائل: هل كان أعادة خوض التجربة هو تحدي تمثيلي، أو مجرد العودة للتجربة القديمة؟

في النهاية إحدى وظائف النقد هي أظهار مكامن العمل الخفية عن عين المشاهد، سلبا أو ايجابا، وليس صفصفة ارقام كأنها شهادات على مقعد الدراسة.



تمت المراجعة بتاريخ الخامس من ربيع الثاني لعام ١٤٤٦ للهجرة
الموافق الثامن من أكتوبر/تشرين الأول لعام ٢٠٢٤ ميلادية
الرياض - الساعة ١١:٣٠ صباحا

تمت 

الثلاثاء، 20 أغسطس 2024

بين الحطيم وزمزم



توت توت... صوت القطار!

لم يغادر المحطة، بقي ينتظرها حتى تصعد على متنه!


افتُتح المشهد بمأمور القطار وهو يحاول تقديم فنجان قهوة كناية عن الترحيب، ليباغتني سؤال: ماذا ستجلب لي؟


توت توت... صوت القطار!

كان يكتب معي بعض هذه الأسطر، هذا القطار، ويترك لي بعضها كي أتم القصة، خصوصًا عند عبور جسر أو نفق!


لم تجبني؟

لن أجب، ستأتين معي!


توت توت... صوت القطار!

كأن صوته دق باب قلبي ليأذن لها بالدخول!


وكنت أسأل نفسي: لماذا لا يقلق قلبي لصوت الدق على بابه؟


ثم توقف صوت القطار!

لأجد نفسي مرغمًا على ركوب الطائرة!

القطار في حياتنا فكرة رومانسية، أمنية الحبيبة بمحبوب العمر!

أما الطائرة فهي كزوجة الأب، مهما حنت عليك، ولو كنت ربيبها، فلن تكون أمًا لك!


أخذنا حقائبنا واتجهنا للمطار. في الطريق، تبين لي أننا قد ندرك تلك الأمنية في تلك المدينة!

وعند الوصول، ذهبت مهرولًا، رافعًا إحرامي عن الأرض، حتى محطة القطار، لأتفاجأ أن آخر رحلة له قد انطلقت بلا عودة! رغم توفر الرحلات في التطبيق!

تركت يداي مسبلتين، ليسبل فوقهما إحرامي الأبيض، وأنا أتمعن في هذا الانتظار الذي خلق هذه المحطة! هل الشوق هو ما جلبني لها؟

قفزت إلى ذهني تلك الأغنية التي تقول: "مقدر أقلك مع السلامة روح!"

جذبتني من يدي اليمنى وهي تشير لرجل واقف خلفنا، يعمل في مهنة عصية على الانقراض: كداد!

فحملنا معه حتى البيت الحرام!


كان ظلام تلك الليلة حالك السواد، ولحن شجي لأغنية اسكتلندية قديمة يتردد في ذهني، حملت هاتفي وكتبت رسالة، وأرسلتها لها.


عند رؤية البيت تهللت أساريري، هششت وبششت، وما إن أتممت شوطي الثالث حتى جذبتني مرة أخرى من يدي اليمنى، تريد أن تمس ستار البيت، فما كان مني إلا أن أخرجت صورة أبي القديمة من داخلي كي تتلبسني، ولم يبق أمامي إلا هي متعلقة بستار البيت، تناجي ربها، وما إن فرغت حتى انتزعتها من المكان كما ينتزع زهرة من بين الشوك، وأتممنا الطواف.


وعندما التفت تجاه يدي اليمنى، رأيت العزال المحرما، فتذكرت قول يزيد بن معاوية: 

فوالله لولا الله والخـوف والرجا

لعانقتها بيـن الحطيم وزمـزم ِ

لكني اتجهت به إلى المسعى، وأتممنا النسك بحمد الله، ولم يبق إلا أن نصيب بعض الراحة!


لكن لم تهنأ نفسي إلا بالتفاتة متأملة للبيت قبيل الخروج، ووقفت متأملًا قليلًا وقلت: لا تحرمنا رؤيته ولا زيارته.


في اليوم التالي توجهنا إلى محطة القطار، ظهرًا، وكما تقول الأغنية: "تفضحني عيني لو جيت أودعك يوم!"

وعند شباك التذاكر سألني البائع وأنا في حالة كأني الحبيب الذي سينال وصلًا من حبيبته حتى يبلغ منها، سألني: أين وجهتك؟

قلت بلا تفكير: دار الهجرة!


تمت



الاثنين، 6 مايو 2024

هايكو الشوغون في الخريف الأخير

 كما لو أنهُ بَشَرٌ
يحدقُ إلي
الثعبانُ في الخريف

ياماغوشي سييسون


يبدأ العمل من اضيق مكان في السفينة، حجرة الربان؛ حيث تزدحم الافكار والأراء وسط اضطراب الامواج وتقلب حركة السفينة، يأتي ذلك الحوار البائس بين رجلين عن مدى جدوة الاستمرار في هذه الرحلة، ليتهي الامر بالوقوف القسري عند شواطئ الارخبيل الياباني.

تنتقل بك الكاميرا لزاوية أخرى، حيث ذلك الاجتماع الخماسي لصفوة الصفوة وهم مثقلين بالواجب والعادات والقضية الأسمى، اي خطأ هنا قد يكلفك حياتك، حتى في عالم الموتى.


فوق الغابات الشتوية،
تزمجرُ الريحُ
ليس ثمة أوراق
… 
طار الغراب بعيدا؛
متأرجحا تحت شمس المساء،
شجرة جرداء
… 
ينطفئ المصباح فجأة
تدخل النجوم اللامعة
إطار النافذة
… 
تأمل الميلاد والموت
اللوتس
تفتحت زهراته

ناتسومي سوسوكي


المسلسل كقصيدة الهايكو هذه
معنى مضمر غير مكتمل وصفي للحظة
كرواية غريب وقع في بلاد غريبة يقطنها اناس يتمتعون بتقاليد وعادات اكثر غرابة يغلف كل هذا لغة صوتية لا تتعدى الشفتين واللسان

المسلسل المبني على رواية مستوحاه من واقعة تاريخية، جاء على شكل مقاطع، مقتطفات، وفصول في حكاية عبر فيها رُبّان في لحظة فارقة للارخبيل اقصى الشرق.

وكأن كل ثلاثية الاسطر هذه، تحكي جزء مما حدث، غير مهم الالمام بالتفاصيل بقدر ان تظل مشدوها تجاه الحدث، شدة الوتر الذي يعزف لحن الحكاية.

وفي ظل كل هذا الموت، تغدو الحكاية اقرب لطابع يجنح نحو الاسطورية لهذا الرُبّان الذي لا يدري أهو في حلم ام حقيقة؟

لكن هذا الربان يستمرئ الأمر، من الألقاب التي يلقيها عليه سيدهم، الى هذه الخدمة الممتدة له من سيدات قصر السيد، وابقاء العداء مع الغريم المختلف في الدين وطلب السيادة على عالم البحار.

وبين تفاصيل اليقين الديني والدنيوي، يضيع التعبير وسط الترجمة، بسبب كل محاولات الفهم التي قد لا تسبر المعنى العميق خلف الصورة الشعرية المكثفة!

لهذا يغدو كل موت هنا كاهتزاز امراء الحرب في اليابان الاقطاعية، فلا يبقى الا السنديان الذي أبى الاحتطاب، وحوله بقية الاشجار قد جزت السيوف جزءا منها، كي تظل شاهدة على كل هذا الشرف المزعوم.

النهاية جائت كذلك عظيمة، الهدف منها تخليد فكرة وصورة معا، أن ذلك الشخص الذي نراه يحاول مرغما التخلي عن اي محاولة تعيد السلطة المطلقة في الأمة، اي أن يكون شوغون، معتبرًا اياه من بقايا بائسة لحقبة ماضية لا يريد لها أن تعود، يحاول تجنب الحرب ظاهرا، لكنه يستمر في تحقيق مراده، كي يقول لك: انما العاجز من لا يستبد!


وعند هذه النهاية يجيء وقت تجلس فيه جلسة الافتراش، وتقوم باعداد الشاي، وتتذكر قصيدة كاشيجي يابوشيجي الأخيرة:

"جثتي التي الموت يموج فيها
لا تحرقوها لا تدفنوها اتركوها في المروج
وبها اطعموا كلبا للطعام أحوج"

تمت






الخميس، 18 أبريل 2024

زراعة ضوء

في حين يبدو لك النور في صفحة السماء كأنه يحاول الولود من مدخل ضيق يلج لك، ثم يبدأ لك بتلوين هذا السواد الممتد أمامك.

اكتشف أن كل شيء حولك بدأ يتنفس، مع الصبح!
الجمادات تتنفس ضوء الشمس، وأنت تتنفس الهواء، ومدينتك تتنفس اللحظة!

ما هي إلا أقل حتى تبدأ ترى قرص الشمس الذي يبزغ، وطرحها حسناء تغمز لك بواحدة من عينيها، تناديك! فإما أن تلبي أو تغني، وقد تمتنع!

مرحبا بكم في ضوء هذا الصبح مع ارتقاع شمسه ان تزرع الجمال حولك!
فتقوم أنت لا تستمع لملابسك، وتنزل مختلف نغمات سلم الموسيقي، مع كل نغمة رنين، لتظهر أمامك لتشاهد الا انت؛ اذ الضوء ان الخفيفة للزراعة تفشل بالفشل دوما.

ثم تتابع مع يومك همته، حتى يحين موعد انطفاء النور كما قال الشيخ حسني -الله يمزحه خير- لتكتشف ان الحسناء عند المغيب تجربة ثنَّت لك الغمرة بعينها الاخرى، ان أتمنى هذا كان يستر كل الزرع الفاشلة.

في الليل الغمام المشرق والسواعد السمراء الكلية تُعبدك بطريقة ترتسم خلف صورة التي تحاول رسمها، فانت مثل حسنائك، تجتذب جمال لا أقوى هنا وهناك بين الفينة والاخرى ولكن مثل صراخ الفلاة: انتظر من يجيبك!

لعلي احاول الان بهذا الكلام ان اصنع من ظلام الليل شعلة!
كاشتعال ممثل على خشبة مسرح!

فهل اسدل الستار؟
وأطفئ الضوء؟
وأنزل من المنصة؟



الاثنين، 15 أبريل 2024

شرب الشاي وأنت تعاني رشحا /كلاكيك مرة تاسعة/

 الظهيرة

يوحي المسمى بدرجة حرارة معينة، لكنك ما حولك يوحي بالعكس تماما، حرارة الظهيرة فقط هي ما تحس بها داخلك!


تستيقظ على انغام زَمّور السيارات القادمة من الشارع المطل على غرفتك

تكييف بارد، ونبضات قلبك تتسارع، وذهول تام تقف فيه عينيك لا تغادر الاتجاه الذي تنظر له

وتتذكر موالا عراقيا قديما حزينا يقول:

من صغر سني همت بيك وتعبت وياك!

 وتقوم متثاقلا بافكارك المبعثرة، لا تدري ايها تقدمه اولا، ترفع يدك اليسرى لتحك بها منتصف رأسك حتى تطرد كل الافكار الغبية الطفيلية كالقُمّل من رأسك، ثم تتوضأ لتصفو.


-منت رايح للدوام؟

- بروح للكايد!

-وشو ذا؟

-دكتور اردني اسمه كايد!


وكلا يحمل من اسمه نصيب، خصوصا انه يستعمل عصى الحلق هذه بسادية عجيبة، ليترك لك خيارين اما ان تتقيأ أو تختنق!

وتزداد الحالة اذا ذكرته ان كان هنالك امكانية لاجازة مرضية، لدرجة الشك انه ربما يترك العصى داخل حلقك الجاف كأنه الصبار!

- توخذها من الطوارئ!

ثم يعود الموال العراقي، ويخيل لك في غرفة الطوارى ان عازفه اعمى يلبس دشداشة بيضاء وغترة بيضاء ويرتدي تظارات شمسية حالكة السواد:

"على درب اليمرون اريد اقعد وانادي"

وكأن اي اجازة، شهادة بها دمغة انك تعاني جرباً

تخبر بحالك رب العمل فيقول: "ان شفت نفسك زين تعال!"


لكني شفت نفسي تشتاق شاي حبق، وقد كان!



تمت

الخميس، 21 مارس 2024

في ياكوتسك - الوصول

 في ياكوتسكو

أنا اخرج من بوابة مطار ماغان

كاد قلبي أن يتوقف من هول الصدمة
من صدمة الجو والمكان وحتى الموسيقى الترحيبية التي تلف المكان
كنت رافعا هاتفي المحمول حتى أرى الساعة، ولكني هالني نفس الحواء الذي اقتحم روحي عندما فتح الباب الخارجي، فشددت على اسناني، وبيدي لليسرى على عضدي الأيمن، ورفعت رأسي تدريجيا مشدوها، ولم يلد في  خلدي أن درجة الحرارة ستكون ابرد من مورمانسك، ولكنها كانت برودة من عالم الأسطورة!


تسمرت مكاني وأنا أحاول الصراخ باسم ايفان، وبالرغم من تبسم العجوز أمامي محاولة تهدئتي، تظن أني خائف، ولكني فقط: بردان! 

عدت لهاتفي قبل أن يتجمد، لأجد أنه يقيس درجة الحرارة ب ٧١ تحت الصفر!
هنا صرخت بكل ما أوتيت من قوة: إييييفاااااااااان!
-أجننت! كنت أبحث عنك أنت أيضا! كدت اهلك من البرد أنا ايضا!
- وأنت أيضا!
‏- أنا لا أعيش في الصحراء أيها المغفل! أنا اعيش في المدينة! وهذه بلدة تقع وسط سيبيريا! ألم تخبرني مرة عن مدينة في بلدكم وسط الصحراء؟
- الشيبة تعني؟
‏- أظن، كنت قد قلت لك ان اسمها غريب، وكانها كنية للرجل العجوز، المهم أن هنا الصحراء جليدية متجمدة، وعندكم العكس تماما، حر أرمض لا تكاد تبين منه حياة، وهنا برد زمهرير لا تكان تبين منه حياة!
- وهؤلاء الناس؟
‏- كالبدو تماما، يعرفون يعيشون في الصحاري، فاسكت، وادنو مني حتى نركب اقرب أجرة!


في الطريق، بدا كل شيء أبيض مشرئب بخضرة، لا تسقط هنا سوى الثلوج، لا امطار ولا ما شابه، فقط كرات القطن المتدلى من السماء، ومع هذا هنالك تقاطعات من الزحام عند اشارات المرور، لم أصدق أنها التاسعة صباحا، ‏لا يكسر حدة هذا المنظر الذي يبدو بهيا، الا الاضواء الحمراء ودرجات اللون الأحمر، الطبيعي منها والمفتعل، ...


- إلى أين؟
- يجب أن نشتري ملابس، يجب أن نبدو كدببة، وبعض الطعام!
- وشاي؟
- لك؟ ضروري! ولي طبعا حتى أبقى يقضا!


في داخل المتجر، تحول المكان لما يشبه التنور من شدة الحرارة، وكأننا نعيش فب عالمين متوازيين، إذ أن المتجر هو متجر صيني غير مرخص، ولكنه يحوي ألبسة جيدة ونوعيات تصمد في هذا المكان.
كان قد اوصاني ايفان قبلا أن لا اتحدث  وإذا ألح احظهم بسؤالي اكتفي فقط بالقول أنني هندي!


- الآن تبدو كروسي حقيقي، سنخرج الان للنزل في طرف المدينة، حيث سوق السمك قريبا من هناك!
- أرجوك! يكفي! بدأت تظهر حراشف على جسدي، أريد أي كائن اخر قابل للأكل غيره!
- لقد بدأ يظهر عليك الدلال!


ثم اطلقنا حتى نصيب بعضا من الراحة في النزل الذي سنبات فيه، لكن في الطريق مررنا على السوق!
اشبه بسوق مركزي أو شعبي، الكل يبيع اشياء مجمدة هنا:
اسماك
حبار
خضار
معلبات
والباعة بكل برود يقولون: هذا يساعد على الحفظ، افضل من أفضل ثلاجة هههههه، وانا اهز رأسي له مستعجلا حتى انهي هذه المحادثة لاني لا استطيع ان اترك يدي خارج جيبي لأكثر من دقيقة!


- لكن انتظر!
‏- ماذا؟
- كل هذا الجليد ولا يوجد ماء!
- نحن لا نذيب الجليد كي نشرب، بل نجلب الماء من نهر لينا، لا توجد آبار هنا، كل الارض تحتنا متجمدة، فلا يتوفر الماء بسهولة، ....
- لحظة لحظة! لا اريد حصة تاريخ وجغرافيا، كانت مزحة باردة يا رجل! ورمقته بنظرة انك دمرت النكتة!
- اها! طيب! ننطلق؟


في الطريق لم يكن بوسعي خلال هذا الملل الأبيض إلا أن أفكر بشيء يساعد على الدفء، لكني لم استطع! فالبرد يلف المكان كما شمس الصيف في اغسطس عندما تتسلط عليك في وسط زحام بساعة ظهرية داخل مدينة مكتظة!


- لعل اغنية لفرقة Otava Yo تساعدك قليلا، ثم لا تقلق، عندما نصل سنعد الشاي كي نسعد به!