يفتتح الفيلم بمشهد كارتوني من حلقة لسلسلة الجوكر معنونة بـ: انا وظلّي، لتأتي المشاهد الكرتونية للجوكر يسير لكن ظلّهُ يشاكسه، حنى ما اذا دخل الغرفة، قم الظل بحبس الجوكر في خزانة الملابس، والظل يردني لباس ومكياج الجوكر ويرج للناس في العلن، يقتل منهم من يريد، ويمازح من يريد، ويغازل من يريد، حتى اذا كثر الهرج والمرج، تجيء الشرطة لتقبض عليه في اللحظة التي يهرب بها الجوكر من الخزانة لينتم من ظلّه الذي سلبه حريته، حتى اذا اقترب أفراد الشرطة، يعود الظل ليقترن بالجسد، ثم يدخل أفراد الشرطة، وينهالون ضربا بالأحذية على الجوكر حتى تتناثر دماه على الشاشة، ويسدل الستار الأحمر معلناً النهاية!
ثم يفتتح مشهد حقيقي من ممر مصحة أركام ....،
لا يهم أي شيء يأتي بعد هذه اللقطة، فالفيلم كله شُرِحَ باختصار في المشهد الكارتوني، لتأتي بقية الأحداث والسرد القصصي تحصيل حاصل - هذا اذا سلمنا بوجود سرد قصصي في الفيلم -
من السخرية ان يكون الفيلم الكارتوني افضل تمثيلا لمآل الجوكر من بقية الفيلم!
اذ ان الفيلم جاء كما لو كان نسخة متخيلة عن تطور قصة الجزء الأول، تكملة متصورة متحرره من اي ارتباط بجزء سابق، وكأنه مستلهم من عنوان الفيلم الفرعي الذي لم يأتي بمسمى "الجزء الثاني" بل بعنوان فرعي معناه: جنون للمنتهى!
وسط مقايضات السجانين للسجائر مقابل النكات، فجأة تقفز هاري كوين في المشهد، وكأنها تعرف آرثر/الجوكر سلفا، من دون اي تبرير او تقديم منطقي، وتهيم به ايضا!
ثم تستمر المحاولات الاصلاحية لآرثر، ومحاولات تقديم حالته الصحية إعلاميا، كي يتم تقيدمه لمحاكمة عادلة، وخلال هذه المرحلة من الفيلم، تتطور علاقة آرثر وهارلي، هارلي التي تحاول ايقاظ الجوكر النائم في داخل آرثر، في مقابل المحامية التي تصر على كبت هذه الرغبة القاتله داخله.
ثم تتقلب كمشاهد بين المشاهد الاعتيادية للحاله، وبين الاغنيات، الاغنيات التي أتت كعالم الاحلام، أو الخيالات أو التصورات التي يريد الجوكر أن يعيشها وليس آرثر، لكنها أتت مقحمة مفتعلة الا من اغنيتين كانتا الوحيدتان اللتان تعبر حقيقة عن حالة الشخصية، أما بقية الاغنيات، هي مجرد الاستمرار للحالة، ليتحول الأمر إلى مجرد حشو، شحم متراكم لا فائدة فيه!
أما الاغنيتين فالأولى هي المازح هو أنا (the joker is me) التي غُنيت في المحكمة، اذ انها ترمز للفكرة التي راودت آرثر حينها في المحكمة، جعلت من الجوكر أن يعاود الظهور من جديد بصورة طاغية، ويتغلى عن ممثله القانوني، ويمثل نفسه كجوكر! ويتعامل مع المكان كنادي للكوميديا، برنامج توك شو الخاص به!
أما الثانية، فقد كانت الاغنية التي جمعت الجوكر بهاري كوين في البث التلفزيوني الخاص بهم، والتي انتهت بأن باغتته بطلقة مسدس في بطنه ليتسمر في ذهول من الموقف، ولم تكتمل الصورة الا في نهاية الفيلم.
باستثناء هاتين الاغنيتين، كل الاغنيات الباقية جائت مقحمة وحشو لا طائل منه الا محاولة ادخالك في هذه التجربة من الذهان السينمائي عنوة، والتي للأسف كثيرا ما تخرجك من حالة المشاهدة، ثم تعود عندما تعود المشاهد الأعتيادية!
تستمر المحاكمة لآرثر حتى بيان الدفاع الختامي، ليقرر آرثر أنه قتل الجوكر الذي بداخله، باعترافه اخيرا للعلن، أن عدد ضحاياه، ستة، احداهم والدته!
والدته التي كان مشهد قتلها في الفيلم الأول ما هو الا تجسيد لفك الارتباط بين كل القديم وكل الجديد ليعلن ميلاد الجديد من رحم موت القديم، الجوكر مقابل آرثر!
يأتي اعتراف المحكمة، لتأكيد ذات الفكرة، فك الارتباط بين كل قديم وجديد، وأعلان عودة القديم من رحم الجديد مجددا، قد قُتِلَ الجوكر معنويا، وبقي آرثر الجسد!
هنا تتخلى هارلي عنه، وتنسحب من المشهد، مشهد الجوكر، وتترك آرثر، كما تركه الكل كما يقول هو دوما، ولكنه لم يتركها، رغم تركه لحلم النجم الكوميدي خلفه، في عالم الأغنيات والأحلام.
ليأتي مشهد النطق بالحكم، وخلاله يحدث تفجير هستيري يهرب منه آرثر، فيتلقفه احد المعجبين به، ويساعده في الهرب، واثناء استعادة الوعي مما حصل، يستوعب آرثر شيء ما، وهو أن الجوكر الذي قتله في المحكمة، قد مات مجازيا، لكن بَقِيَ الجوكر الفكرة!
فكرة المجرم الذي يمثل الشر بحملهِ ويجزيه بمثلهِ!
كلنا جوكر، كما كانت تقول الأغنية! المازح هو أنا (the joker is me) من مجرمين ومقهورين ومهمشين وغيرنا، ممن ينتمون لذلك القاع الذي لا يريد أحد أن يطل عليه!
فيهرب من السيارة ليبحث عن حبه التي قد قالت له مره في احدى زياراتها له خلال جلسات المحاكمة، انها حُبلى، ليجدها انها تودعه، فهي احبت الجوكر وليس آرثر! ولهذا غيرت زينتها في دلالة على ولادة جديدة لشخصيتها!
فيؤمن يقينا ارثر، أن مكانه هو مصحة أركام لا يغير، يقايض النكات بالسجائر.
ليأتي في النهاية، احد ابناء مصحة أركام، المعجب الخفي كي يقول له نكته مفادها، ان هنالك رجلا رفض الاعتراف بكينونته في لحظة فارقة، فقرر احد محبي قتله! وتلقى الطعنات الأخيرة وهو يهذي، ليعود لاغنية الاحلام في بثه مع هارلي وهو منذهل من انها قد اطلقت له رصاصة في معدته ليقول لها اخر نص في الأغنية: أريد وريثا!
ثم يسقط أرثر ميتا! وقد ترك وريثا للجوكر، لا له، وريث ايضا تخله عنه ولم يتخلى عن الفكرة، وبقيت المدينة حتى اخر لحظة ترفض آرثر!
الفيلم فيه حسنات مغمورة في بحر سيئاته، بمعنى اخر الفيلم كسابقه لا يزال مقلق ومربك وتائه ايضا! بالرغم من وحود جوانب اجادة، تجلت مثلا في توظيف الاغنيتين وتمثيل الادوار الرئيسة، والمشهد الكارتوني، ومشهد الختام، لكن بدلا من أن يكون كسابقه كأنه سمفونية متكاملة فيها عازف كمان يعزف نشاز طوال الوصلة، أصبح هنا عازف الكمان هو المايسترو الذي يوزع النشاز طوال السمفونية!
ومما زاد في حالة التيه، هو هذه الاصرار على الاطالة رغم امكانية الايجاز وتركيز الفكرة، كي يكون امتداد طبيعي كجزء ثانٍ، لكنه قرر أن يتعامل مع الحكاية بزاوية الذي ينظر للقصة من بعيد، وكأنه ليس من نفس المبدع الذي أخرج الفيلم الأول!
حتى أن الفيلم لم يوظف الأدوار التي اسندها لنجوم مهمين توظيفا جيدا، مثل بريندان جليسون (مأمور المصحة) أو ستيف كوجان (المذيع الذي اعد اللقاء مع آرثر في زنزانته) ويغلب على ظني أنهم جاؤوا لخوض التجربة ليس إلا.
أما خواكين فينكس، فبالرغم من مشاركته في فيلم Walk the Line 2005 (وهو فيلم غنائي عن مسيرة المطرب جوني كاش) إلا أن أداء الاغاني في هذا الفيلم، يجعلك تتسائل: هل كان أعادة خوض التجربة هو تحدي تمثيلي، أو مجرد العودة للتجربة القديمة؟
في النهاية إحدى وظائف النقد هي أظهار مكامن العمل الخفية عن عين المشاهد، سلبا أو ايجابا، وليس صفصفة ارقام كأنها شهادات على مقعد الدراسة.
تمت المراجعة بتاريخ الخامس من ربيع الثاني لعام ١٤٤٦ للهجرة
الموافق الثامن من أكتوبر/تشرين الأول لعام ٢٠٢٤ ميلادية
الرياض - الساعة ١١:٣٠ صباحا
تمت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق