الثلاثاء، 7 نوفمبر 2023

وثم عاد الشاعر الى مدينته


كانت هذه المدينة، فلورنسا، تنادي زائرها مثلما كان ينادي دانتي حبيبه بياتريس، أكان لابد يا بياتريس أن تضيئي النور؟

قد دخلناها من الجنوب، خلفنا روما نيرون، من دون لحنه الأثير، إنما كنا نسمع لحنا توسكانيا يطوف حولنا، وكانت الظهيرة، بدأ كل شيء هادئ، شمس ساطعة، حولها غيوم جمّلَت مُحياها.

قبيل نهاية العصر، نزلنا قرب قصر فيكيو، فإذا بالجو تلبد بالغيوم، وهلت الامطار قليلا، فتوارينا بدعوة من صاحب مقهى في ساحة ديلا سنوريا حتى يخف المطر، جلسنا، وطلبنا القهوة، لكني اصريت ان يعدها على طريقة اهالي نابولي بالرغم من كوننا شمالي البلاد، ذهب من عندنا وهو يضحك ويقول: قادمين من الجنوب!

المهم ونحن ننتظر ونتحدث، اذ بالمطر يخف قليلا، فتبيت رجلا يلبس لبسا يعود لفترة ليست موغلة بالقدم، لكنها قطعا ليست حديثة، كأنه لباس القساوسة لكن ليس منهم، مرتدنيا قلنسوه حمراء مُخاطة ببرنوس احمر قانٍ كأنه زهرة حمراء وسط حقلٍ اخضر، اقتربت منه، وفي طريقي لوسط الساحة اذ يلتفت نحو رجل روماني مظهره ضبابي كأنه الطيف، بدأت بتحريك عيوني لعلها زغللت من تأثير المطر، لكن عيناني لم تخطئ، رجل يرتدي لباس روماني تقليدي قديم، ذو لون سياني مميز، قد حَلَّقَ رأسه بورق الغار، فلما اقترب من صاحب القلنسوة، مد له مخطوط، وقال له: حتى هذه المخطوط لم يسلم منك ايضا!
فرد عليه بقوله: الا يغفر لي ان كتبته قبلا؟
قفال الاول: الغفران يأتي بعد عدم تكرار الذنب، لكنك اعدت تكرار الخطيئة!
عندما لمست كتف صاحب القلنسوة، تسامى هو الاخر لحالة الطيف كرفيقه، لكن المخطوط سقط منه على الارض!
تلقفته، فإذا هو بخط عربي لا تخطئه العين، كان في مطلع المخطوط:
"وأعلم  - أعزك الله - أن الحب أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة"

فقلت في نفسي: سرقة جديدة تحت بند التأثر! وضحكت!

عندما اردت العودة، وجتها قد جائتني وهي تبتسم وتقول: متى جئت بهذا المخطوط، ازيارة الى المكتبة مرة اخرى؟
قلت: بل لبيت شاعر!
قالت: وشاعر يزور شاعرا! وغمزت لي!
قلت: لعله كما تقولين! وضحكنا!

في الطريق توقفنا عند محل يبيع حرف يدوية، دخلنا لاني وجدت لوح شطرنج مصنوع يدويا واحجاره تمثل عائلة المديتشي، فتمسكت به تمسك الطفل بلعبه، وما ان رفعت الرقعة على طاولة المحاسب، حتى دخل رجل امرد، يرتدي ايضا قلنسوه حمراء، لكن البرنوس ابيض، ولم تكن مُخاطه به، مد يده للمخطوط الذي تأبطهُ وقال: اعتقد ان هذا يخصنا!
قلت: وعدت انت ايضا!
قال: يحاول بلدنا ان يغفر، لكن بعض الذنوب لا يغفرها البشر! استميحك عذرا!
وخرج! وهو يتلاشى كلما ابتعد عن ناظري!

التفت لها وقلت: هل رأيتيه؟
قالت: ليت لي مثل احلام يقظتك، لكن احك لي، فأنا احب حكاياك!
قلت: نحكيها في بيت الشاعر!
قالت: نحكيها في بيت الشاعر!

وقد كان!
بيت دانتي اليغيري في فلورنسا وهو يتناول حياته فيها حتى نفيه ومعيشته بين روما وفيرونا حتى مثواه الاخير في رافينا.
اما الروماني فهو فيرجيل صاحب الإنيادة، اما الامرد فهو جيوفاني بوكاتشو الذي يعتبر المتيم باعمال دانتي وكأنه المعرّي في مُعجز أحمد.

ثم تحدثنا كثيرا حتى اتينا للغرفة التي فيها ابرز اللغات التي ترجمة اعماله، لاجد رجل اعمى ذو لحيه ناعمة طويلة قليلا واعتم بعمه عربية وكأنه مسافر عبر الزمن، فقلت: يا شيخ اترى؟
فقال: لا، لكني اسمع، وسمعتك تقول بوكاتشو، هذا النذل سيخفي حقيقة علاقة طوق الحمامة بكتاب حياة جديدة، كما اخفى علاقة كوميديا دانتي برسالتي!

سألته: أأنت أحمد بن عبدالله التنوخي، المعروف ب...
عندها دخل ذلك الامرد، وهو يشير باصبعه نحو وجهي مباشرة، وكان اصبعه امام انفي تماما وقال لي: أخرج! أنت وشيخك الضال!
قلت: على رسلك! سنخرج!

عندما نزلنا، جلسنا قرب مطعم صغير، وسألت "شيخي الضال" إن كان يريد أن يأكل، فقال أنه يريد سلطة!
أما أنا فأريد لحما!
فقام من عندي وادار ظهره وقد تسامى هو الاخر لحاله الطيف الشبحي التي اظن أن كل سكان هذه البلدة يجيدونها!

فقالت لي: لعلك تريد ان تزور بيته الاخر في فيرونا!
قلت: تزورينه معي!

وقد كان!

تمت!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق