الخميس، 14 ديسمبر 2023

فإذا جئت فهذه سفرة العمر العجيبة!

 خيل إليّٓ يومها أني سمعت مغنيا ينشد:

"قل لمن يسبح فوق البحر هل يعرف عمقه؟"

كانت تنظر إلّي في كل مرة اتحدث عن مزارع الزيتون، وتقول: لم اتصور أنك تحبه لهذه الدرجة!
قلت: لعل شيئا ما فيَّ يربطي بالبلاد التي تزرعه، ومنها بلادي!

كانت الساعة تشير نحو الثامنة والنصف صباحا، وحتى الطريق لم يكن بذلك الطريق المريح المُعبد، من بين هامات الجبال وبين سفوح الوديان، كأننا بنحث عن جذور الزرع المحيط بنا.
كانت الاغنيات هي رفيقنا الوحيد!

"سوف نمضي نحن في أعماقه، نحو القرار!"

في حوالي العاشرة، تبين لنا سور منتد، يسارنا، به تأثير عوادي الزمن، وزخات المطر المتكرره، والرياح التي تضربه.
لكن عندما اقتربنا من بوابه قبيل نهايته، وجدنا تلك البوابة العتيقة التي بدأت كأنها من عصور قديمة صامدة رغم مرور السنين، وما زالت الاغنيات ترافقنا:

"ايها الضيف اللطيف، سترى كل غريب"

كان الجو ملبا بالغيوم، والشمس تستتر خلف احداهن، اوقفنا السيارة أمام الفيلا، ونزلنا نبحث عن اهل المكان:
- !Anybody home? Hello ..
وفجأة جاء من العدم، شابا ثلاثيا يلبس ملابس المزارعين، يقول: صباح الخير!

فرددنا التحية، وبدأ يدور معنا يرينا ارجاء المكان.
المكان الذي هو عبارة عن مزرعة زيتون كبيرة فيها جهة لزراعة محاصيل ورقية، وزاوية فيها خراف بسيطة، وفيلا طرفها الايمن، في القبو توجد كنيسة عائلية صغيرة، بجانب غرفة للخدم.
اما غرفة الطعام، فهي تطل على جزء من المزرعة الذي امامة حوض سباحة امام جرف يريك بقية الحقول التي حولهم.
ولهذا طلب منا ان نحرك السيارة لمكان صف السيارات الخاص بهم.

لم يكن مهم اطراف الحديث الذي قلناه، ولا صدره ولا عجزه، لكن المهم انه كان حديثا حميميا وكأني اعرف الرجل مسبقا، حتى عندما جاء ابن عمه وهو المسؤول المالي عن المزرعة، فلما سألته عن مجاله العملي اصلا قبل ان ينخرط في اعمال العائلة، قال: محاسبة! وهو المجال الذي درسته حتى انخرط في اعمال العائلة، بالمناسبة هذا الجو لا يماسبني البتة، اذ انه يصطحب معه رياح قوية تؤذي الانتاج، ويبدأ عقلي بحساب الخسائر تلقائيا.

فضحكنا، واكملنا جولتنا، ونحن نسير بين اشجار الزيتون، يتخللها تعليقات جانبية وصور تذكارية، وكانت بعض هذه الشجيرات تعري نفسها من بعض الغصون الزائفة، التي تحمل زيتونا لا يحسن حصده لعدم نضجه، حتى بدأنا نشم رائحة تبغ مميزة!

جاء والد مضيفنا، وهو يدخن سيجارا توسكانيا مميزا بقِصَره، معتمرا قبعة قش صفراء مثني اطرافها من الخلف، وفي وسطها عَقَدَ شريطا اسودا، ويردتي قميصا ابيض عليه صدرية رمادية اللون، والبنطال يحمل ذات اللون، لكنه كان يرتدي بوتا بنيا غامقا تظنه الاسود، يرتفع حتى وسط ساقه.
جاء ليسلم علينا، وكنا ضائعين في وسط الترجمة، ثم اشار بيده اليسرى التي فيها سواء اسود لساعة قديمة تسمع صوتها كما لو كانت ساعة جدارية، بثلاثة اصابع، لدعوى، فقبلت دعوى شرب فنجان القهوة، عند حوض السباحة، وأخذ يسأل عن فرق انواع الزيتون وزيوته في المنطقة.

وبين العربية والايطالية والانجليزية، تحدثنا عن كروم العنب التي حولهم، فتمتم بكلمات، ضحك منها ابنه، ثم قال لي: يقول ان تلك الكروم هي التي عرفته بأهل أمي، في ليلة مقمرة حزينة، مغلقين نوافذهم من قوة الريح، حتى هم لديهم مشاكلهم مع مثل هذه الاجواء ....
قلت: اين القصة؟ اكمل!
قال: آه! نعم! هم الوحيدين الذي كانوا يزرعون الرُمان، وقد قطفها منهم!
قلت: هذه قصة أم كذبة؟
قال: هذه حكاية!
فضحكنا جميعا، وذهب ابوه بعد ان حيانا بقبعته واتجه صوب الفيلا، ونحن ذهبنا مع ابني العم للغرفة التي فيها طاولة الطعام، اعد لنا افطارا بسيطا وان كان متأخرا، واكملنا الحديث عن السفر والرعي والزراعة، وعن مشاكل التموين والتمويل، حتى مللت الارقام لا المكان.

عندما هممنا بالمغادرة، قدم لي هدية علبة شوكولاه مخلوطة بزيت الزيتون، بمقابل قنينة صغيرة من زيتون الجوف!

ومضينا وكلانا يفكر بسؤال وحيد:
كيف نحفظ هذه الذكرى ليوم غد؟
حتى نعلقها للذكرى؟

فقررنا نتصور صورة كبيرة، ونعلقها للذكرى!

وعلقت معها كلماتي هذه في رؤى حالمة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق