الأحد، 20 أكتوبر 2019

Joker 2019 - سمفونية الكمنجي الذي يعزف النشاز!

عندما أراد تشارلي تشابلن أن يرثي حياته في فيلم أضواء المسرح اختار شخصية مهرج من طفولته ليجسدها لتكون ستارا يخفي خلفه كل ذاك التاريخ الممتد.

يستفتح مظفر النواب قصيدة "عبدالله الإرهابي" بقوله:
الليل و عبدالله أقارب
العرق البارد والنار و حزن الأيام
وعبد الله أقارب
يفهم في اللج
وأفضل من يصنع مجدافين ولا يملك قارب
يدفع جفنيه يقاتل لولا الصف البطلي
يزيح الجدران
يصاهر نار الأيام
أحبك يا عبد الله لنفسك غاضب
وعلى نفسك غاضب

الفيلم هنا يتناول حكاية هاجس الاستسلام قبل الهزيمة بنصف ساعة، هي الفترة التي تجعلك هائماً!
هؤلاء المهزومون يظلون في حلقة مفرغة يدورون تائهين مهما حاولوا لا يصلون الى نتيجة لهذا هم نفوسهم دوما غضباء لانه مهما ولت وجهها ترى ما يسوؤها لهذا تغضب على نفسها وعلى حالها ومن هنا يتولد الارهاب والعنف، كالارتطام بالحائط تماما!

الفيلم هنا لا يكتفي بتقديم وجهة نظر أحادية أفقية تكاد تخرج من الصورة لأذنيك مباشرة، بل هو يريدك أن ترى في كل حدث لا يراه آرثر هو حدث غير مهم بالضرورة، كيف لا وآرثر هنا هو الزائدة الدودية التي يريد المجتمع لها ان تنفجر!
يبتدئ الفيلم بمشهد له وهو يحاول اضحاك نفسه معزول تماما الا من همس زملائه في كواليس المسرح الذي يعملون فيه بلوحة عند مدخل المكان تقول: لا تنس ان تبتسم!
يخرج ليحاول ايجاد نفسه التي يبدو انها تاهت منه، لتستمر السردية حتى تكتشف ان هنالك علاقة تربط بين هذا الرجل الذي في قاع المدينة مع اثرى اثريائها وهو توماس وين، وهي علاقة غير شرعية لوراثة عرش المدينة، في اشارة للتصور المتخيل للصراع المستقبلي بين الجوكر وبروس على انه صراع على عرش السيادة الملكية في احالة لما كان يحدث حول تيجان الملكيات الاوربية.
يأتي تاكيد هذا التشبية من خلال تصوير جوثام/نيويورك خارج الاستديوهات المعهودة في تأكيد على فكرة ان مدينة جوثام ما هي الا دستوبيا نيويورك التي حملت اسمها من مدينة يورك الانجليزية.

فتحدث الجريمة الأولى في أعماق قاع المدينة، أحد القطارات ليسمع بعدها آرثر بصدى فعلته يطفو على السطح ويؤكد استمرارية الطغيان لدى الطبقات العليا في المدينة مما يزيد في نمو جذوة النار التي تشتعل داخله.
تزداد الحالة تفاقما عندما يقرر ارثر البحث خلف الشيء الوحيد الذي يربطه بهذا العالم، ليجد ان كل الأشياء أما هي أوهام أو مفتعله، وكأن روحه ضائعة وتبحث لها عن مستقر، هذه النفس التي تريد لها فصام عن جسد كأنه فصد، يتضح هذا جليا في طريقة المشي اما منحي الظهر او منصب القامة، او في الاضاءه المحيطة به حين يمشي او حتى في سلالم درجات الحي هبوطا او صعودا وصولا الى اختيار الملبس في الظهور الاخير.

داخل هذا الوضع، وسط هذه المدينة العجيبة، تحدث الطامة عندما يرى آرثر قدوته في الكوميديا تهزأ به، ليتفجر بعدها التحول الذي انهى الارباط بكل الاشياء حوله، يتضح ذلك جليا في مشهد قتل امه الذي ما هو الا تجسيد لفك الارتباط بين كل القديم وكل الجديد ليعلن ميلاد الجديد من رحم موت القديم، الجوكر مقابل آرثر!
يأتي تأكيد هذا الحدث في مشهد زيارة رفقاء المهنة القديمة، الذي اقدم فيه المولود الجديد بالانتصاف للميت القديم والجلوس بجانبة بدم بارد، ليعاد فيها تعريف الكوميديا، إلى معناها الأول من جديد.

ثم يأتي الخطاب الأخير الذي قطع بثه اعلاميا في محاولة السلطة لبث سيطرتها على كل الاشياء، لكن الحدث الذي جرى انتشر انتشار النار في الهشيم معلنا ولادة احد اشهر ارهابيي المدينة بثأر شخصي - او بدونه - لا يهم مع وريث العرش الجديد في جوثام.

كل صلات كانت مع آرثر قطعت في مشهد مشاهدة لكوميديان القرن العشرين تشارلي تشابلن وهو يتزلج عاصبا عينيه على حافة السقوط، ثم افترقا ليتحول بعدها تشابلن الى بطل متهم بذنب لم يرتكبه، وصار نجما انار الكون، اما الثاني فسقط في القاع كأنه هو نجم تكالب وسقط داخل نفسه متحولا الى ثقب اسود سيبتلع المدينة لا محالة.

الفيلم ممتاز وتناول عدة امور بعدة سياقات ساعدت على ظهوره بالشكل الذي يجعل كل من ارتاده لا يخرج منه الا بشعور انه اخيرا حضر فيلما في صالة سينما يستحق المشاهدة، ولكن هذا لا ينفي وجود تحفظات لكن ليست بالضرورة تعني انه فيلم لا يستحق المشاهدة.
واحداها مثلا معضلة الربط النفسي بالعنف، لكنه عمل على احتمالية الوقوع وهنا كان عمل المخرج والكاتب، وصحيح ان التحول ليس نفسه التحول المنطقي الذي كان عند ترافيس بيكل، لكن هو استغل مجموع الحالات الي يعاني منها ليحدث انفجار يتحول منه آرثر .
بمعنى اخر الفيلم مقلق ومربك بالرغم من جودته، كأنه سمفونية متكاملة فيها عازف كمان يعزف نشاز طوال الوصلة.
ومما زاد في الركبة عدم تشخيص حالة واحدة يعاني منها ارثر وبالمقابل الظرف الذي وضعه فيه في داخل مجتمع مدينة جوثام التي هي بطريقة او باخرى دستوبيا نيويورك .

ومن يتحدث عن الواقعية في ان يوضع شخص هكذا في ظرف استثنائي هو امر يصعب حدوثه، ففي النهاية هي دراما وعمل فني يقدم بقالب يريد صانعه تقديم فكرة ورسالة معينة، الواقعية سبق ان قدمت من قبل نولان تحت بند وفكرة ( صراع الخير والشر) بانفصال عن الثلاثية، لكن الذي هنا هو ان تود فيليبس حاول يتعامل مع ارثر/جوكر بطريقة حيادية وبتجرد عن باتمان ومعالم عام باتمان، لكنه ما انفك عنه لشدة ارتباط الجوكر بباتمان فلولاه - اي باتمان - لم يظهر الجوكر اصلا، باتمان هو سبب ظهور هؤلاء الغرائبيين .

أحب أن أشير إلى مسألة أخرى تخص مارتن سكورسيزي، فقصة المخرج - تود - معه تواترت، لكني أزعم أن اثره المباشر على النص طفيف وليس جوهري - ان كان من اثر - النص والحالة كتبت وانتهي منها سلفا.
ان كان ثمة تأثير، ففي تاثير مدرسة سكورسيزي على عقل المخرج، الذي بدوره يقدره تقدير اشبه بالعبادة، وهذا السبب انه اخذ انثين من اهم افلامه والتي كان بدورها فيها البعد النفسي الواضح على الشخصية ووضعها في خلطة متناسقة .
اما في حالة نولان هو مثل ما قلت قصة البسها لباس عالم باتمان، ولانه البسها فالتزم بالعالم داخل اطار قصة الصراع بين الخير والشر، لكنه انزلها للواقع اما في حالة فيلمنا لا.
وأزعم أيضا لو - اذا نفعت - أن مارتي عمل عليه لأعاد كتابة العمل كاملاً، لكن المربك استلهام تود لفيلم سائق التاكسي .
وليس ذات فيلم سائق التاكسي نفسه .

من أعظم الأشياء في الفيلم كانت استخدام قيمة تشارلي تشابلن الايقونية في ذاته هو - حيث تشابه الظروف الحياتية بين النجم وبين شخصية آرثر - وكذلك في السخرية من الطبقية الغنية في مجتمع جوثام التي حضرت فيلما له يسخر فيه من ذات الطبقة متمثلة في هنري فورد، ألا وهو فيلم الأزمنة الحديثة.
وثانيهما في توظيف فكرة الفيلم الآخر لمارتن سكورسيزي وهو فيلم ملك الكوميديا الذي يقول ببطولته روبرت دي نيررو في اكثر ادواره تميزا في مسيرته السكورسيزية، حيث انه كوميديان مهووس بكوميديان اخر فيقوم باختطافه، لكن في حالة ارثر كانت المسألة أكثر صخبا، وليس أدل على ذلك من استخدام دينيرو وظهوره بهذا الدور بالذات بالفيلم ليؤكد هذا هالشيء وهذه الفكرة وايضا احتفاء بالايقونة السينمائية روبرت دينيرو بالمزاوجة مع الايقونية الانسانية تشارلي تشابلن لتكون كلها خلطة بايزاء آرثر المأزوم الذي يريد أن يصبح كوميديانا في يومٍ ما ....



تمت هذه المراجعة في صباح يوم الأحد بتاريخ 20 أكتوبر 2019م الموافق 21 صفر 1441هـ
من صالة منزلي الساعة الثالثة وسبع دقائف فجراً
وانا استمع لموسيقى مقدمة فيلم الثور الهائج



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق